ما هي الثقافة ومن هو المثقف؟

جمعة, 10/26/2018 - 09:58

 

 

تأخذ كلمة المثقف اليوم في بعض الأوساط الاجتماعية في موريتانيا عدة انحناءات وتموجات تكاد تخرجها عن مفاهيم الحقل الدلالي الذي تنحدر منه لغة، حيث أصبح مفهوم "مثقف" في بعض السياقات يستخدم كدرع وقاية وهيبة يديرها الرجل على كتفه، أو وسام شرف يتباها به الرجل في مجالس التباهي، وترتبط عند بعض الناس بطريقة اللبس والكلام والمأكل والمشرب وأشياء من خاصة الإنسان، وبعدد الشهادات واللغات التي يقنها الإنسان.

إنه لا مناص اليوم من وضع القارئ في وجهة مع ذاته لانتقاء حدود معرفية واضحة لكلمة مثقف في فضاء اليوم، الذي أصبحت فيه كلمة مثقف توضع في السيرة الذاتية ويفتح بها باب التعريف وتقصد بها أمور لا تمت للثقافة بصلة مباشرة، فماهي الثقافة ومن هو المثقف؟

لعلّ أقدم تعريف للثقافة، وأكثرها شيوعاً، ذلك التعريف الذي وضعه ادوارد تايلور والذي يفيد بأنّ الثقافة : هي ذلك الكلّ المركّب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد، والفن والأخلاق والقانون، والعادات وغيرها من القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع.

وعرّفها عالم الاجتماع الحديث / روبرت بيرستيد / بقوله : ( إنّ الثقافة هي ذلك الكلّ المركّب الذي يتألف من كلّ ما نفكّر فيه، أو نقوم بعمله أو نمتلكه، كأعضاء في مجتمع ) .

ويرى / جيمس سبرادلي أنّ ثقافة المجتمع، تتكوّن من كلّ ما يجب على الفرد أن يعرفه أو يعتقده، بحيث يعمل بطريقة يقبلها أعضاء المجتمع .. إنّ الثقافة ليست ظاهرة ماديّة فحسب، أي أنّها لا تتكوّن من الأشياء أو الناس أو السلوك أو الانفعالات، وإنّما هي تنظيم لهذه الأشياء في شخصيّة الإنسان. فهي ما يوجد في عقول الناس من أشكال لهذه الأشياء. 

ومن التعاريف الموجزة والدقيقة التي وضعت للثقافة أنها "هي ما يبقى معك بعد أن تنسى كل شيء"

أما المثقف فهو إنسان على وعي بخصوصيات مجتمعه وتراثه وعلى اطلاع بالعلوم الشائعة في محيطه، وبكل ما يدور حوله في العالم، وله وجهة نظر نابعة من ذاته وأفكار صادرة من وعيه، عن الحياة والسياسة والرياضة والفن وعن كل جديد، ويحترم رأي الآخر ويحترم حدود التخصص، ولا يشترط فيه أن يملك شهادات جامعية ولا أن يكون عالما بكل شيء، وإلى جانب ذلك يملك قدرة على ترجمة المعارف و التجارب التي يكتسبها من الحياة، وليس مجرد مرآة تعكس كل ما يقابلها.

لقد اشتهر المجتمع الموريتاني أول ما اشتهر بالعلم وبالحفظ خصوصا وبموسوعية، فكان الرجل يجمع في ذهنه أعداد كبيرة من الكتب يحفظها عن ظهر قلب، فكان طابع الموسوعية يطبع على مفهوم المثقف، قبل أن يدخل المستعمر وتتغير وجهة نظر المجتمع وتصبح لغة المستعمر عامل جديد من معايير الثقافة، كما جلب المستعمر أزياء جديدة ومظاهر أخرى اعترت الثقافة المحلية وتأثرت بها، مثل اللبس وطريقة الحديث والتدخين، وهيأة شعر الرأس، إلى غير ذلك من المظاهر التي ظلت تسيطر على الثقافة، أما اليوم فبعد أن اجتمع الناس في عاصمة واحدة وصاروا على مرمى سهم من العالم، وغزت التكنلوجيا البيوت وجاءت القنوات الفضائية أخذت الثقافة اتجاهات أخرى أصبحت تضيف إلى اللبس والمعرفة وطريقة التعبير ثقافة التفكير والتوجه الفكري والسياسي وضرورة وجود الرأي وظهر مفهوم جديد للأنا، فأصبح لكل إنسان جملة من الأبعاد يصف ذاته من خلالها ويتم تعريفه من خلالها، إنه من المسلم أن مجمل المفاهيم الراسخة قد أخذت طريقها إلى التغير اليوم وذلك بفعل قوة الاتصال وتقارب العوالم التي تتجه إلى تحطيم الجغرافيا وبفعل نجاح الثورة التكنلوجية التي في طريقها لمسخ التراث البشري وطمس هوية الإنسان وجعله يعيش المستقبل ويتجنب أي شيء يربطه بتاريخه وأصله حتى يتنكر لكل شيء، منها تغير مفهوم الثقافة، وأصبح لقب مثقف يمنح لكل من هب ودب، فعلا لقد أصبح المثقف في موريتانيا هو أي إنسان يتلعثم في القراءة ويخطئ في الكتابة و يشكر ويعيب، ويختلق تعريفات جديدة لأحداث مضت من التاريخ ويبحث لنفسه عن أصل يربطه بهويته، ويفرض وجهة نظره في كل شيئ ويدس أنفسه في كل شيء متجاوزا حاجز التخصص، والتجربة، وأصبحت نسبة الثقافة تقاس بالدرجة الأولى بما يملك الإنسان من قوة مادية، وما نال من منصب سياسي خلال حياته، وأصبحت الثقافة تجلب من الخارج فيتم تصنيف أبناء موريتانيا وفق تيارات فكرية ولدت خارج موريتانية عربية أو غربية، وهذا ما لا يخدم الوطن في شيء، فلماذا لا نستحدث أفكارا من عمقنا ومن داحل وطننا لمذا نتعصب ونتجاشر على مواقع التواصل الاجتماعية من أجل أفكار غربة على وطننا إنه عين الغباء.

إننا اليوم أحوج إلى إعادة بناء جملة من المفاهيم وتصحيحها من الأساس، ومن تلك المفاهيم مفهوم الثقافة حيث أن الإنسان وفق علماء النفس يعيش وفق الثقافة السائدة في محيطه ، ويتأثر أكثر ما يتأثر بمحيطه، وأصبحت حياة الناس اليوم تبدأ من عوالم التواصل الاجتماعية، أكثر مما تتشكل في الواقع، حيث أصبحت هذه العوالم تصنع الأفكار الغريبة على المجتمع وتصدرها للشارع من باب الفكاهة والفراغ فتأخذ مكانها في ذهن المجتمع، إن غياب دور التربية والفراغ السائد في المجتمع هما ما أنتج مثل هذه اللحظة الفكرية التي عصبت عيون المجتمع وجعلته يساق كالقطيع ليبتلع ما يجلبه الغرب وما تسوقه الحركات الفكرية الكثيرة في الأوساط الثقافية، رغم أن لديه ما يكفيه من علوم ومعارف وأفكار تجنبه عوائق واقعه.

إن التربية والمعرفة هما السلاح الأقوى لترسيخ ثقافة إسلامية أصلية يطبعها الموروث الثقافي المحلي والمثل التليدة للسلف الصالح وما عرف به من الكرم والعلم والابتعاد عن الدنيا ومفاتنها، ذلك هو الطريق السلم لصناعة ثقافة رصينة وراسخة وقوية تستطيع أن تواكب عالم السرعة السائد اليوم.

إن الثقافة تتشكل من ورقات متابة ووعي ثاقب وأخلاق حسنة  وتاريخ أصيل وحضارة قيمة والمثقف هو إنسان نادر مهموم بوطنه وبنفسه ومجتمعه ولا وقت له لغير ذلك، هو مملوك لا يحرره إلا يوم تولد أمة تتصدر العالم في كل شيء.