الثورات كالحمى تعم الجسد فتضنيه لكنها تجدد خلاياه، وليس من الحتمي حدوثها مجتمعيا، يكفي أن يأتي حاكم مختلف ليحدث تغييرا جذريا في حياة الناس، فيكون ذلك مدخلا سالكا إلى الإصلاح وإعادة البناء والقضاء على الفساد والجريمة، لكن التحول العميق في بنيات موروثة وأزمات عنيدة، ليس بديهيا بل لعله يطلب مزيجا من البراعة والحظ وشيئا من الغرابة.
لا يحتاج الأمر إلى توصيف من قبيل "المعقولية" ومواجهة "المجهول"، تلك أفكار تعكس مواقف غامضة تريد الإفلات من "الحساب المنهجي" و من معيارية موروثة عنيدة ومتكاسلة، بل يكفي الاقتراب من حمإ الواقع الموروث ومخاطبة الناس بما يعرفون وبه يؤمنون مع ممارسة خطابية وعملية منفصلة عن أية معيارية مجانية ومترددة ونمطية كتلك التي تلازم الروح "الأهلية" العميقة والتي تفتح الباب على مصراعيه أمام الخيارات القلقة والمتوحشة في آن، وتكسب الكيان العمومي حالة من السكون والخور بل والمجانية البائسة، وقد تلف الناس والأشياء فتنتج واقعا مأزوما ومسكونا بالخوف من المستقبل وما يورثه من موارد التشرنق والولاءات الريفية وحتى العدمية.
هل يكفي النصح والإرشاد للأرواح المسكونة بالخوف، بالعدمية، وحتى بالقنوط، وهل يكفي التجاهل والاتكال على عامل الزمن السرمدي لنسيان الأشياء وتجاوزها، وهل من العقل والمنطق المراهنة على روح التسامح و الركون إلى التراضي والتوافق المسكون بالريبة والتردد وحتى الخداع.
أسئلة واقعية ومعها كم هائل من التردد والبطء والمراجعة وحساب البيدر بطريقة الحزر، ونظرية العصا والجزرة وأشياء أخرى، حزمة من الأفعال والأقوال والإجراءات التي لن تغير شيئا، لأنها في نهاية المطاف تشبه "الطلي اعل الجرب" والإبل تلخص المسارات العنيدة للتفكير والممارسة لدى البدو في الصحراء الأطلسية.
الخوف داء عضال وهو أصل كل شر، إنه يلد التردد وقد يأتي بتوائم من الخور والندم وقد يكون التهور عملا بطوليا أحيانا، لأنه لا بديل عنه، بل هو كخشبة الغريق وحتى عملا تاريخيا يظل معيارا يقاس عليه.
بالطبع الحكم ليس للترضية، بل لممارسة السلطة وهي من التسلط، قد يرافقه حكمة وعقل، لكنه ومن داخله يولد معقوليته الخاصة، وهي نتاج الهيبة والكاريزما، و حسابات غير منظورة لم تكن في الحسبان.
الثورات، ليست معجزة، وليست أيضا شرا مستطيرا، إنها منعرج تاريخي حاسم، يحدث بعد انسداد غير متوقع يغلق مسارات الخروج تماما مثل صخور الجبل المنهار، يتراكم بعضها فوق بعض فتسد الطريق في نهايته ثم تصبح جبلا مستقلا، هنا في حياة البشر يحدث شيئ من ذلك ويبدأ الأمر بحادث عابر ثم تقع الواقعة وينفجر كل شيئ ويشارك من ليس معنيا والمحصلة ثورة مكتملة، قد تكون مبصرة وقد تكون عمياء، يمكن للحاكم الملهم أن يكون الصخرة الأولى والأخيرة وأن يكون أيضا الفتيل الذي يفجر الركام فتعود الطريق سالكة على مد البصر.
من أين نبدأ سؤال ملازم للكل، وهو بلا معنى، لأن الأزمة هي الحالة التي لا يعرف لها حل بديهي، ولا يمكن تجاوزها إلا بتفجيرها من الداخل، وهو ما يطلب شجاعة بل تهورا وأيضا صراحة مطلقة وحتى وقاحة بذيئة، تسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية وتضع الكل أمام الواقع من غير رتوش، حتى ولو كانوا يعرفونه مسبقا ويمرون بمرحلة الإنكار وهي حد نفسي مفعم بالغرور.
من يستطيع أن يشعل الفتيل تحت الركام وأن يفجر صخور الجبل وأن يفتح الطريق هو الرجل ـ الثورة، وهو الحل للخروج من النفق المسدود قبل أن ينهار الجبل كاملا.
كتبه عبد ربه أحمد المقدري
في 12 رمضان المعظم 1442 هجري