“
إن العمل على إنشاء هيئة وطنية للزكاة والعمل الخيري؛ تعنى بجباية الزكاة وصرفها في مصارفها المحددة شرعا، ونشر ثقافة وقيم التعاون والتكاتف والتعاضد بين أفراد المجتمع؛ يمثل قرارا موفقا، وحدثا فارقا؛ يجتمع فيه النص بالامتثال،
ويحقق فوائد اقتصادية واجتماعية،
وهو تنزيل للأحكام على الواقع؛ فلا خلاف بين أئمة الإسلام سلفا وخلفا على وجوب إخراج الزكاة؛ فقد ثبت وجوبها بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والسنة النبوية الشريفة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام،
قال الله تعالى:
﴿وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِنَا یُؤۡمِنُونَ﴾.
يقول القاسمي في محاسن التأويل:
﴿ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾؛ “أيْ يُعْطُونَ زَكاةَ أمْوالِهِمْ “.
والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام؛ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)). كتاب الإيمان، باب دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ.
والزكاة مصدر للبركة والنماء والطهر من حيث معناها اللغوي ومقصدها الشرعي، وتأتي بعد الأمر بإقامة عماد الدين الصلاة؛ تؤخذ من أموال الأغنياء فترد على الفقراء، تطهر المال وتزكي النفس، فالمال عزيز وعندما تجود به تسمو وترتفع وتشرف؛
قال الله تعالى:﴿خُذ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾.
وقد توعد الله سبحانه من لا يدفع الزكاة بشديد العذاب، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَومَ يُحمَى عَلَيهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكوَى بِهَا جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُم وَظُهُورُهُم هَذَا مَا كَنَزتُم لِأَنفُسِكُم فَذُوقُوا مَا كُنتُم تَكنِزُونَ﴾.
ثم إن مأسسة الزكاة والقيام بواجب الجباية والصرف؛ يمزج بين التأصيل والتطبيق، ويعتبر من صنوف العناية بأصحاب الاحتياج من الأصناف الثمانية المحددة شرعا، إذا أحسن التنظيم والتدبير، وتمت مراعاة الشفافية، وتنفيذ نظام صارم للرقابة المالية والشرعية على الهيئة، وهو ما أكد عليه القائمون على المؤتمر التحضيري لإطلاق الهيئة الوطنية للزكاة والعمل الخيري، وكذا المحاضرون والمشاركون.
إن المؤسسات المالية؛ تعتبر شخصيات اعتبارية اختلف في مسألة وجوب إخراج زكاتها، ولكن لا مشاحة في تواجد أموال لا تنفك عن تعلق حق الفقراء بها، واعتبارها أموالا ترجع ملكيتها لأفراد مكلفين بإخراج زكاة المال إن توفرت فيه الشروط؛ وتم إعمال الإجتهاد المعاصر “زكاة الأسهم”،
وكذا وجود آخرين من أصحاب الدثور لا يحرصون على إخراج الزكاة كما ورد في النصوص الشرعية القطعية الثبوت والدلالة، وغياب آلية تطبيقية للجباية والتوزيع وفق المصارف المحددة شرعا، ووجود حاجة ماسة لدى الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم من المصارف الشرعية للزكاة؛ تعد أسبابا
ذات وجاهة تضغط بإلحاح نحو التسريع بإنشاء هيئة وطنية
تعنى بجباية الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية.
ولكن لا بد لقرار موفق من هذا الحجم أن يدرس بعناية، وأن يبتعد القائمون عليه عن كل الممارسات الغير لائقة بصرح شرعي يراد له أن يكون امتثالا لأمر رباني يقيم أركان الإسلام، وينبغي الحرص على ضرورة ضمان وصول أموال الزكاة إلى مصارفها؛ لأن إحجام الكثير عن تمكين الدولة من جبايتها يعود إلى الخشية من وضعها في غير موضعها.
واستشارة أهل العلم والتخصص وإشراكهم في وضع أسس وقواعد العمل فيه، والثقة بالله العلي العظيم أولا في تحقق السداد والرشاد والنجاح، ثم في وجود النية الصادقة على التغيير واستحضار قيم العدل والحق.
يضاف إلى ذلك كون إنشاء هيئة على هذا المستوى؛ داخلا في إستراتيجية مكافحة البطالة إذ يعد مصرف “العاملين عليها” من أهم وسائل اكتتاب الشباب المؤهل العاطل عن العمل وخصوصا مخرجات التعليم العالي، وامتصاص أفواج الخريجين؛ جامعة انواكشوط العصرية، والمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وطلبة الاقتصاد الإسلامي، وجامعة العلوم الإسلامية بالعيون بمختلف تخصصاتها، وطلبة العلم من طلاب المحاظر النموذجية، وطلبة معاهد التكوين الفني والمهني.
ومن المعلوم أنه توجد أموال مختلف في زكاتها؛ نحو الأوراق النقدية، إلا أن الراجح عند أهل العلم وجوب إخراج زكاتها،
والسبب في ذلك قيامها مقام النقود الذهبية؛ ولما كان الناس يحتاج بعضهم إلى ما في أيدي البعض الآخر، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بواسطة عقود المعاوضات، وتقرر أن الأثمان وسيط في المعاملات المالية، وتغيرت طبيعة النقد، وتطورت أنماط العمليات، كان الأمر معضدا القول القائل بوجوب الزكاة في الأوراق النقدية.
يضاف إلى ذلك الإستفادة من دوران كم كبير من الكتلة النقدية في البنوك المحلية والتي لا تلقي بالا لفريضة الزكاة؛ وهو ما يعطل جزءا كبيرا من المصادر المالية عن أعظم فريضة في حق المال، وقد يؤدي إلى تحييد أصول نقدية ذات حجم كبير لا تعمل على إخراج الأموال الزكوية من الأموال المتداولة في الدائرة الاقتصادية الوطنية، أو في السوق النقدية؛
لكونها مؤسسات تعمل وفق نظام الفائدة الربوية، وهذا يدعونا إلى دعوة القائمين على جهة الوصاية على النظام المصرفي الوطني إلى التعجيل بوضع النصوص التطبيقية للقانون رقم 036/2018؛ لضبط عمل البنوك التي تقدم خدمات مالية ذات طبيعة تشاركية، والإشراف على عملية إخراج الزكاة لأموال المساهمين فيها، وأصحاب الودائع الاستثمارية، وتحفيز البنوك الأخرى الراغبة في التحول إلى النظام المصرفي الإسلامي.
أما المصرف المركزي الذي يطبق نظام المشاركة أو يقوم على نظام مزدوج؛ فإنه يتعامل بنظام الزكاة، ويوجه البنوك التي تقدم خدمات مالية ذات طبيعة تشاركية نحو تبويب أنظمتها المحاسبية على إخراج الزكاة، ويراقب القوائم المالية لهذه المؤسسات، ويعتمد معايير شرعية تقوم عليها عملية المراجعة الشرعية الخارجية، تقوية لقدرة النظام المالي على الامتثال لأوامر الله تعالى في الجانب المالي.
والزكاة هي كذلك حق للمجتمع في عنق الأفراد الأغنياء، فأداؤها يحقق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم، ويضمن الكفاف للفقراء، وهي أيضا ضمانة لتحقيق مقصد الشريعة في تداول الأموال وعدم تركزها في أيدي قلة من الناس،
ويعتبر تحديد المستفيدين منها حصرا؛ نوعا من التوزيع العادل للثروة، وزرعا للمحبة بين الفقراء والأغنياء، فالفقير إذا كان ينتفع من زيادة مال الغني تمنى لماله النماء، فبزيادته تزيد نسبة انتفاعه منه، ويزول عنه حسده، ويتأسس نظام لغرس المحبة بين أفراد المجتمع المسلم.
وفي تطبيق نظام الزكاة؛ تظهر مميزات المنهج الاقتصادي الإسلامي، وبها توطيد إحدى الركائز الأساسية له، ويتقدم المجتمع المسلم اقتصاديا واجتماعيا نحو توفير تمام الكفاية لكل فرد من أفراده.
ثم إن من مقاصد الزكاة؛
-منع اكتناز الأموال،
-سد خلة الفقراء،
-إعانة المحاويج،
-توفير فرص عمل للعاطلين،
-تأليف القلوب على الدين،
-العمل على ترسيخ مبدإ الحرية،
-الوفاء بالالتزامات المترتبة على الغارمين،
-إيواء من تقطعت بهم السبل،
وكلها أبواب تؤدي إلى تحريك الدورة الاقتصادية، وإعادة توزيع الدخل بين مكونات المجتمع الواحد، سعيا نحو تجسيد روح المحبة، وبث قيم العدالة والتعاون والتعاضد والتماسك.
ومن أعمل الإجتهاد والنظر في كيفية الجباية تناسبا مع مقتضيات الشرع والتنزيل على الواقع، عليه أن لا يهمل إعماله في طرق الصرف وآلياته، فينظر في مصلحة الأصناف الثمانية المحددة، بإنشاء مشاريع إنتاجية تستقطب الفئات المستهدفة؛ وتحصل على أسلوب لتحقيق عائد مادي، يضمن الاستغناء واستمرارية المردود بشكل مستدام وليس مرة واحدة في العام، وينشر ثقافة التعفف عن مد يد السؤال، ويشجع على بذل الجهد، وإشاعة عقلية العمل والكسب الحلال.
ويمكن توجيه قسم من المشاريع المقترحة، نحو دعم المتضررين من التسرب الدراسي، ودعم النساء القيمات على البيوت وتمكينهن من إقامة مشاريع صغيرة مدرة للدخل،
وكذا إعادة تأهيل خريجي مراكز الحجز والسجون من الذين ثبتت توبتهم، وتأكد استعدادهم للولوج إلى ميدان الحياة العملية من الفقراء والمساكين، إعانة لهم على السير في طريق الإصلاح.
إن إنشاء مؤسسة وطنية توكل إليها مهمة جمع الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية والقيام بأهدافها التنموية، يمكن أن يتحول إلى نهضة شاملة على كل المستويات؛ اقتصادية واجتماعية وإصلاحية؛ إذا أحسن كل من التصور والتنفيذ والرقابة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.