الدكتور محمد ولد خباز ـ أستاذ القانون الدستوري
منذ عدة أيام أعلن الرئيس التونسي قيس السعيد تجميد عمل مجلس النواب التونسي ورفع الحصانة عن النواب وأقال رئيس حكومته السيد هشام المشيشي من منصبه وقرر ان يتولى السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعينه بنفسه وأوضح انه جمد كل اختصاصات مجلس نواب الشعب.
ورفع الحصانة عن جميع أعضاء المجلس وقرر الرئيس قيس السعيد ان يتولى منصب النائب العام وتعهد بملاحقة المفسدين حوالي ٤٥٠ شخصا متورطين في ملفات فساد وأعلن انه سيواجه بحزم الساعين الى الفتنة.
وقد اتخذ رئيس الجمهورية هذه الإجراءات انطلاقا من مقتضيات الدستور التونسي خاصة الفصل 80 منه، التي تأتي ضمن اختصاصات رئيس الجمهورية التي يشملها الباب الرابع: السلطة التنفيذية والتي تنص على "أن لرئيس الجمهورية في حالة خطر وشيك مهدد لكيان الوطن وامن البلاد واستقلالها يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة ان يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب واعلام رئيس المحكمة الدستورية ويعلن عن التدابير في بيان الى الشعب، ويجب ان تهدف هذه التدابير الى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في اقرب الآجال ويعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دايم طيلة هذه الفترة وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة....وينتهي العمل بتلك التدابير بزوال اسبابها."
ان الأسباب التي دعت رئيس الجمهورية في تونس الى اعلان حالة الاستثناء قد تكون مبررة فالاحتجاجات التي شهدها الشارع التونسي والغير مرخص لها والتي تم أثناءها نهب او إتلاف الممتلكات العمومية او الخصوصية وخروج أزمة كورونا الصحية عن السيطرة والأزمة الاقتصادية والأمنية التي لم تعرفها تونس من قبل تبرر لجوء رئيس الجمهورية الى الفصل 80 من الدستور.
وقد أعلن الرئيس قيس السعيد انه قام بالاستشارات اللازمة لذلك، لكن ردود فعل رئيس السلطة التشريعية ورئيس الحكومة في بداية الأمر كانت رافضة لتلك الإجراءات واعتبرا انها غير دستورية.
ولا شك ان مقتضيات الفصل 80 من الدستور حق لرئيس الجمهورية وهو وحده الذي يقدر الظروف المسببة لها ولنهايتها والاستشارات لا تقيده، غير ان مجلس النواب يجتمع وجوبا عندما يعلن رئيس الجمهورية حالة الاستثناء في دورة طيلة هذه الفترة ولا يمكن منعه من ذلك مادام رئيس الجمهورية لم يقم بحله قبل اعلان حالة الاستثناء.
ويتساءل البعض كيف يمكن للسلطة التنفيذية ان ترفع الحصانة عن النواب؟ وهل لا يشكل ذالك تناقضا مع فصل السلطات ومع الضمانات الممنوحة لنواب الشعب في وجه السلطة التنفيذية؟
إن هذه الحالة وإن كانت سابقة في تاريخ البرلمانات المغاربية إلا انها بكل تأكيد مطبوعة بالشرعية الدستورية، ذالك انه في حالة تطبيق الفصل 80 من الدستور، تصبح كافة سلطات البرلمان كما هو منصوص عليه بيد رئيس الجمهورية التي يمارسها بأوامر تشريعية ومنها إمكانية رفع الحصانة عن النواب.
ونشير هنا أن حالة الاستثناء هذه موجودة في كل الدساتير المغاربية (المادة 39 من الدستور الموريتاني لسنة 1991، المادة 59 من دستور المغرب لسنة 2011، المادة 98 من دستور الجزائر لسنة 2020).
اما اقالة رئيس الحكومة او بعض الوزراء فليس في الدستور التونسي ما يمنع ذلك فالفصل 80 يمنع فقط اتخاذ لائحة لوم ضد الحكومة، ومعلوم أن جهة اتخاذ لائحة اللوم هي مجلس النواب ولا يمكن تأويل هذا الترتيب على ان المنع المفروض على النواب ينسحب كذلك على رئيس الجمهورية لأن النص واضح ولا لبس فيه.
وقد تراجع هشام المشيشي عن موقفه الرافض لحل الحكومة وقال إنه سيسلم المهام لرئيس الحكومة الذي سيعينه رئيس الجمهورية وقد جاء هذ الموقف بعد التصريحات المعتدلة والحكيمة التي أطلقها السيد الغنوشي رئيس مجلس النواب والتي دعا فيها كافة الأطراف السياسية الى حوار وطني لحل الأزمة.
إن أزمة المؤسسات التي تعيشها تونس حاليا تجد بعض جذورها في اختلالات في الدستور التونسي سببها بحث الجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور عن حلول توافقية ترضي الجميع وقت إعداد الدستور حيث منح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة في الظروف العادية و"دكتاتورية دستورية" في الظروف الاستثنائية الى جانب رئيس حكومة يتمتع هو الآخر بصلاحيات واسعة لا توجد الا في الأنظمة البرلمانية كتعيين الوزراء دون استشارة رئيس الجمهورية الا فيما يتعلق بوزراء الشؤون الخارجية والداخلية والدفاع فهذه الوضعية جعلت السلطة التنفيذية ذات رأسين، في حالة خلافهما يتعرقل السير المنتظم للمؤسسات.
لقد عرفت السلطة التنفيذية منذ 2014 صراعات بين كافة رؤساء الجمهورية ورؤساء حكوماتهم معلنة وغير
معلنة، وفي هذه الأزمة بالذات عمق تدهور الأوضاع الاقتصادية والصحية الصراع بين رئيس الجمهورية قيس لسعيد ورئيس حكومته هشام المشيشي عندما أقال هذا الأخير مجموعة من الوزراء وعين ءاخرين دون التشاور مع رئيس الجمهورية الذي رفض بدوره تسميتهم في وظائفهم، وكان كل من الرجلين يتصرف ضمن صلاحياته الدستورية.
إن الأزمة التونسية ذات ابعاد متعددة ولتجاوزها لابد للأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ان تساهم في البحث عن حلول عن طريق حوار بناء وقد دعا حزب النهضة الى هذا الحوار كما عبر اتحاد الشغل أهم النقابات التونسية عن استعداده لتقديم خارطة طريق للمساهمة في الخروج من الازمة.
نتمنى أن يتجاوز أشقاؤنا في تونس بحكمتهم المعهودة وبروح وطنيتهم هذه الوضعية لتعود المؤسسات التونسية إلى سيرها المنتظم في أقرب الآجال.