طالبن: الهوية والرسالة.
كان طالبن رحمة الله عليه من نوع يتعذر على الانسان ان ينساه.
خُلِقَ طالبن وعاش ليعبد الله جل جلاله وحده لا شريك له الذي استخلفه في الارض ولا يخاف غيره، يخدم الإنسان وعطوف بالحيوان؛ ويُفرح الأطفال ويُجبر خواطر المظلومين وينقذ الملهوفين، على أساس الحديث:
" الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء" و"في كل كبد رطب أجر".
لكن من هو طالبن؟
انه شقيقي سيدي أحمد ولد احمد ولد سيدي احمد الملقب طالبن بن عبدي البوبكري الكنتي ولأمه فاطمة منت محمد محمود ابن العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي. ولد رسميا في مدينة كولخ او نواكشوط لكنه في الحقيقة مولود في مدينة Lagos بنيجيريا، وذلك سنة 1963 عندما قررت والدتنا رحمها الله حج بيت الله الحرام وزيارة الروضة الشريفة وهي حامل وعاشت طيلة حياتها الكريمة مشتاقة الى الديار المقدسة وزيارة قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم حيث خصصت كل الموارد المتوفرة لديها لذلك الغرض. فقررت السفر الى الحج وهي في اشهرها الاخيرة من الحمل عن طريق البحر من داكار مع الشيخ إبراهيم انياس ووفد كبير من ضمنه السيد الهادي ولد السيد مولود فال اليعقوبي رحم الله الجميع وهو الذي اعتنى بها كثيرا وخصص لها سكنا في مدينة كولخ السنغالية نظرا لظروفها المتواضعة. وعندما وصلوا الى Lagos جاءها المخاض ورُزقت بتوأمين هما الشيخ إبراهيم وسيدي احمد واعطاهما الشيخ ابراهيم انياس او حكام "Lagos" اسماء أمراء هاوسا "متولي ودانيا"؛ ثم أرغمها الحال على العودة الى مدينة كولخ مع خيبة أمل كبيرة لاستحالة السفر الى البلاد المقدسة في ذلك الحين.
فحرصت الوالدة بعد ذلك على الاستمرار في البحث عن أداء مناسك الحج والعمرة وزيارة الروضة الشريفة لاكثر من سبعة مرات الى ان أتاها الاجل المحتوم ليلة الجمعة الرابع من ذي الحجة سنة 1416 هجرية (1995) ودُفنت في البقيع الطاهر وفقا لما كانت تتمناه وبعد ان اقنعتني بمرافقتها في تلك الحجة قائلة انها ستلقى ربها او تكون لها حجة وداع في تلك السنة وكان لها ما طلبت.
درس طالبن وتوأمه الشيخ رحمهما الله في محظرة اهل الرباني بمدينة الشيخ ابراهيم انياس ثم واصل تعليمه في نواكشوط بعد ان عادت الأسرة باكملها الى موريتانيا وسط السبعينات من القرن الماضي.
ولم يتمكن من استكمال تعليمه المحظري شاكيا من عنف بعض مدرسي المحاظر. ثم التحق مع شقيقه الشيخ رحمهما الله وهما مراهقين بحركة الكشافة نظرًا لشغفهما بالعمل التطوعي والإنساني الى ان أقنعني آنذاك بضرورة الاهتمام بجمعية المرشدات الموريتانيات والتي توليت رئاستها لفترة وجيزة في نهاية الثمانينات.
عُرِفَ طالبن بالذكاء الحاد وسرعة البديهة وسرعان ما تعلم اللغات الفرنسية والأسبانية واللهجات الوطنية السونكية والبولارية مع الوولفية التي كان يتقنها اصلا الى جانب لغته الأم العربية طبعا.
لم يكن طالبن مثقفا ومتعلما كما اراد له والدينا ان يكون مثل بعض اخوته، الا أنه كان انسانا بسيطا محبوبا طيبا كريما ومهذبا مع الجميع ومع الفقراء والمستضعفين تحديدا. وكان يثور ويستشيط غضبا اذا واجه او شاهد استخفافا او استحقارا به هو شخصيا او باحد اصدقائه او بأي مخلوق كائنا من كان "فيتحول الى أسد" كما وصفه احد اصدقائه.
رسالته:
كان طالبن عابدا مقيما للصلاة في وقتها وزيادة ويصوم متطوعا جل الوقت وخاصة يومي الإثنين والخميس ومنفقا في سبيل الله؛ وقد ازداد إيمانًا وعبادة بعد انتقال شقيقه الشيخ الى رحمة الله سنة 1992 وهو في ريعان شبابه وكان عابدا وملتزما.
كان مهموما بالسلم و بالعيش المشترك بين الناس وبين الشرائح الاجتماعية المختلفة وإشكالية الوحدة الوطنية في بلدنا؛ فوهب نفسه وحياته لذلك وخاصة عندما كان مقيما في اسبانيا حيث يعيش ولديه؛ وفي فرنسا وفي كل مكان لاستقبال الطلبة الموريتانيين من جميع الفئات الاجتماعية ولمساعدة الفقراء والمساكين من الدول المجاورة…
كما نذر نفسه لإسعاد الخلق وادخال البشاشة وتخفيف الضغط النفسي للناس جميعًا خاصة عندما قرر ان يسكن على شاطئ البحر مع صديقه "نيكولاس" الذي قرر تحويل سكنه معه الى مصلى او مسجد باسم طالبن جزاه الله عنه بأحسن الجزاء. واحيانا يستغله بعض اصدقائه نظرا لكثرة علاقاته في الادارات الموريتانية او الأجنبية وأذكر انه تدخل لتسهيل دخول رجل اعمال ثري عبر مطار دولي اوروبي كان قد نسي جواز سفره عند مساعده الذي قام بإجراءات سفره في مطار نواذيبو مستغلًا صداقته مع مفوض شرطة مطار تلك المدينة. فكان بعض اصدقائه يطلبون منه ويقنعونه بالتدخل لحل مشكلة ما ليستفيد الإثنين في الربح الا ان سرعان ما ينفق نصيبه في عمل انساني استعجالي.
وفعلا عندما كنت اختلف معه وما اكثر ما اختلفنا، نظرًا لاختلاف اساليبنا وشخصياتنا رغم وحدة مبادئنا وسعينا الى نفس الأهداف. نعم لم أكن افهم كثيرا من تصرفاته المتشعبة لانني كنت أعامله بعقلانية وأذكره بقول الله تعالى "لا يكلف الله نفسا الا وسعها"؛ وكأنه بشر طبيعي لكنني اكتشفت في الاخير مضمون رسالته بعد رحيله وحين لا ينفع الوصل ان الله فتح له أبوابا لم تُفتح لغيره في محيطنا العائلي وحتى لمن هو اكثر علمًا وثقافة منه وايسر حال. فسخر الله له كثير من الناس يعطونه بلا عد ولا من فيعطيه هو الآخر لاول يتيم او محتاج، وكأنه يُحيي سُنة الشاعر:
"يجود علينا الخيرون بمالهم
ونحن بمال الخيرين نجود"
كما اعطاه الله طاقات غير عادية في قلبه الحنون ليوزع الشحنات العاطفية والابتسامة والعطف والحنان لليائسين والبائسين ويرسم الابتسامة على وجوه الناس وكان مرحا أريحيا خاصة مع الأطفال وكأن طالبن الطفل لم يكبر. كان للمساكين نصيبهم الأوفر منه فلطالما وجدوا العطف والطمأنينة عنده.
حدثني من عاشره فترة في فرنسا أنه كان يستيقظ باكرا رغم قساوة الطقس ليوزع الخبز والقهوة على مُشردي الحي وكان هولاء المشردون يذكرونه بالاسم ويفرحون لرؤيته. والحيوان ايضا كان له حظ هو الآخر من قلب طالبن الكبير فقد حدثتني عضو في الحكومة الحالية عن مشاهدتها اياه يُعرقل حركة المرور لينقذ قطة صغيرة.
اتصل بي بعض المعزين من فرنسا ومالي والسنغال يبكون ويحكون ما قدم لهم من مساعدات وما وفر لهم من هبات في ظروف قاسية ومنهم موظفون قالوا ان طالبن كان لهم غوثا ودعما ولولاه ما كانوا ليصلوا الى ما وصلوا اليه اليوم من نجاح وتوظيف. ولما اخبرني بقراره السكن على الشاطئ قلت له حقيقة انه لا يسعك الا فضاءات ممدودة وافق مفتوح تستقبل فيها البشر بكل اجناسه وألوانه اما بيتنا المتواضع فاظنه ضيق جدا لا يسعك أنت ولا يلبي همومك واهدافك.
والغريب رفقه بالضعفاء وقساوته مع الاقوياء والمتكبرين. كان مثلا يزور والدة صديقه المفضل رجل اعمال معروف بالكرم والتي اوصت ولدها بعد رحيلها على الاعتناء بطالبن لانه ببساطة كان الوحيد المداوم على زيارتها في غياب ابنها، يحكي لها القصص الظريفة ويساعدها على المشي… كما قال لرجل الأعمال الذي ساعده وتكفل بضمانه لدى شرطة مطار اوروبي: "الاه! ادفع ثمن الخدمة، "انت ما فيك الاجر " ورد عليه الرجل مجاملا سأدفع لك الثمن لكنه نسي الموضوع ثم رأى في نومه رجلا من أجداد طالبن يخنقه بقوة وهو نائم وحكى الامر لزوجته التي قالت له "الحك خلص عنك ذ الصالح اللي التزمت لو وانسيتها…".
إما قصته مع احد أقارب زوجته الاولى الأجنبية الذي كان مريضا في المستشفى في Las Palmas، و كان بينهما خلاف عائلي شديد؛ وعندما زاره في احدى المرات وصادف ذلك إصابته بأزمة قلبية وطلب الطبيب الاسباني من طالبن بجدية وادب ان يتفادى زيارته مرة اخرى حتى لا يغضب وتتدهور حالته الصحية. فرد عليه، بصراحة يا دكتور هذا بالضبط ما أريده. هذا رجل سيء للغاية، سأواصل زيارته حتى تأتيه ازمة اخرى وتنقطع روحه ويرتاح منه الجميع.فلم يتماسك الطبيب حتى غلب عليه الضحك…
فارجو من الله سبحانه وتعالى ان يفرج كرب احبتنا واخوتنا ويهدينا جميعا سواء السبيل. "كانت الله أكبر تعبيره المفضل يطلقها مدوية لا يهمه المكان ولا الزمان. كما كان أحب دعاء الى قلبه دعاؤه صلى الله عليه وسلم في الطائف: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي.. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك.. لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك".
كان كذلك رحمه الله جميل الصوت واعتاد مديح الرسول الكريم يكرِّرُ "يا زين العمامة، صلى الله عليه يا زين لعمامه واه صلاة عليه
من هو واحد ؟ واحد هو الله وازين لعمامه واه صلاة عليه…".
أرجوا من الله العلي القدير أن يحفظنا وإياكم وذرياتنا وأحبتنا جميعا، ويوفقنا على فعل الخير والاعتناء بأولاده وبتربية صغيره احمد.
كما ارجو دعواتكم بالتوفيق لنا ونحن بصدد إنشاء هيئة للعمل الانساني باسمه؛ هيئة من خلالها نواصل رسالته النبيلة.
كانت كذلك رحلته الفريدة من نوعها الى الحج في سيارته مرسيديس القديمة، تأخذ حيزا كبيرا من تفكيره وعبر عن رغبته في تجسيدها في سيناريو وثائقي نأمل تجسيد تلك الفكرة.
وفي الختام أنتهز هذه المناسبة لاذكر الجميع بضرورة التواصل والتراحم بينهم وأحبتهم ليعطف بعضهم على البعض ويعبروا عن حبهم لذويهم حتى لا تفوتهم فرصة الحياة لان حبلها قصير جدا.
وقد لا ننتبه لشخص عزيز حتى يرحل قبل ان نطمئن عليه ونضمه الى صدرنا قبل فوات الأوان. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.
مهله احمد طالبنا
شقيقة طالبن رحمة الله على روحه