ينسى الحبيب حبيبه في حال تلبسه بحركة شاغلة أو بسكون صارف.. أما الحركة الشاغلة فأخص صورها وأكثرها اطرادا انشغال الإنسان بالكسب ونحوه من مشاغل الحياة التي لا تقوم إلا بها.. وأخص أوقات الانشغال هذه وقت الضحى، ففيه يكون الناس عادة قد انصرفوا إلى أعمالهم وما شاكلها من دراسة ونحوها، ويكونون في حال إقبال وهم بعد في عز طاقتهم ونشاطهم، قبل أن يبلغ منهم التعب مبلغا يصرفهم إلى التفكير في أمور أخرى أو البحث عن أسباب التسلية والراحة وغيرها مما ينصرف معه الذهن إلى التفكير في الحبيب.. وإلى ذلك الوقت الإشارة بقوله تعالي: {والضحى}
أما السكون الصارف فأخص حالاته وأكثرها اطرادا سكون النائم. والليل ـ إذا سجى ـ هو الوقت الطبيعي للنوم. ولذا جاء القسم الرباني {والليل إذا سجى}.. فتبين من القسم بهذين الظرفين الزمانيين استغراق مظروفيهما من الحالات الشاغلة أو الصارفة عن العناية بالمحبوب.. وإذا كان الحبيب مذكورا في حال انصراف الناس إلى شواغلهم، فكان ذلك غاية البلاغة ومنتهى الإبانة في نفي القلى.. فكأن البارئ جل وعلا يقول لحبيبه صلى الله عليه وسلم: إن الناس ينصرفون عن محبوبيهم في حال كدحهم وانشغالهم بأسباب العيش وفي حال خلودهم للنوم، وإن حبيبا لا ينسى حبيبه في هذه الأوقات لحري من باب أولى أن لا ينساه في غيرها من سائر من الأوقات.. وإن رب الناس الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يمسه نصب ولا لغوب لأحق ألا ينشغل عن حبيبه في ليل ولا نهار.
ثم إن الوَدْع (من قراءة {ودَعك) بتخفيف الدال)، والتوديع (من قراءة {ودَّعك} بتضعيف الدال) إنما هما في الأصل ترك حسي ومباينة بدنية، يستلزمان حركة تناسب في طبيعتها وفي قوة ظهورها حركة الشمس في جريانها لمستقر لها في الأفق المرئي، كما تناسبان حركة الإنسان في ذروة نشاطه. وثمة مناسبة لا تخفى بين الحركتين وما تتسمان به من الظهور وبين الضحى بحسبانه وعاء من أظهر الأوعية الزمنية وأوعبها لهاتين الحركتين. أما القلى فهو ترك معنوي، محله الأصلي القلب لا القالب، ولا تلازم بينه وبين حركة الإنسان، بل إنه إلى السكون أقرب، وهو به أعلق، لشدة خفائه واكتنانه في باطن الإنسان اكتنانا قويا يناسب ظلمة الليل وسجوه. ونفي الودْع أو التوديع والقلى في هذا السياق، وعلى هذا الوجه، إثبات مبين قاطع لمحبوبية الحبيب – صلى اللـه عليه وسلم – محبوبية لا تقبل الاستتار، كالشمس في رابعة النهار، سيجليها من بعد في أرجاء المعمورة، وعلى تعاقب العصور، اقتران اسم الحبيب باسم ربه في كل أذان. وهي في ذات الوقت محبوبية بالغة الخفاء والاستتار، لا تدرك البصائر كنهها، كما لا تدرك الأبصار حقائق الأشياء إذا لفّها الظلام بجلبابه، حال سكونه وركوده. وإلى تينك الحالين سيشير من بعد مقام العلو الذي لا يضاهيه علو {وهو بالأفق الأعلى}، {عند سدرة المنتهى} وبين ذلك العلو وبين إطلالة الشمس وقت الضحى مناسبة لا تخفى، كما سيشير إليه في قصة المعراج ذاتها مقام القرب الذي لا يدانيه قرب {فكان قاب قوسين أو أدنى}، وبين هذا القرب وبين سجو الليل مناسبة لا تخفى أيضا، يجلي بعضها تهجد الليل {ومن الليل فتهجد به}، وقرب الساجد {واسجد واقترب}، والاكتنان في الكهف في مبادئ الوحي، وفي مبادئ الهجرة، تمهيدا وتوطئة لفشو السر وظهوره، وإذا جاوز الاثنين سر فشا. هي إذا، وباختصار، محبوبية لا تنحسم بحال لا في رابعة النهار ولا في عتمة الليل، لا بوجه حسي ولا بوجه معنوي، لا في حال حركة الكائنات ولا في حال سكونها، لا في ظاهر من الأمر ولا في باطن منه. وبذلك كله آذن أيضا إسناد الرب إلى المربوب إسنادا ظاهرا في قوله {ما ودعك ربك) وإسنادا باطنا في قوله {وما قلى}، فالضمير في الأولى ضمير ظاهر ظهور الودع والتوديع، والضمير في الثانية ضمير مستتر استتار القلى.
{هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}
الشيخ الخليل النحوي