لا يمكن الكلام عن التمييز ضد المرأة من دون التوقف عند موضوع بيت الطاعة ونشوز الزوجة لدى المحاكم الدينية في لبنان وسيما المحاكم الشرعية السنية والتي سيتركز بحثنا على تلك الدعاوى وآثارها أمامها. فعند حدوث خلاف بين الزوجين ومغادرة الزوجة للمنزل، يحق للزوج أن يقدّم دعوى إطاعة لدى المحكمة الشرعية، وفق شروط سنوردها لاحقا، وذلك لإجبار الزوجة للعودة إلى المنزل، وإذا أمرت المحكمة الزوجة بالعودة ومساكنة زوجها ولم تمتثل فإن المحكمة تعتبر الزوجة ناشزا ويسقط حقها في النفقة الزوجية.
1- أساس دعوى الإطاعة وشروطها:
بحسب المادة 17 من قانون تنظيم القضاء الشرعي التي تحدد إختصاص المحاكم الشرعية لا وجود لدعوى الإطاعة، على أن مبدأ طاعة الزوجة لزوجها قد ورد في المادة 73 من قانون حقوق العائلة العثماني الصادر عام 1917 وعدد من مواد الأحكام الشرعية لمحمد قدري باشا وهو الفقه ألذي تستند إليه المحاكم الشرعية. ويمكن تلخيص الشروط التي تحدد أن الطاعة واجبة شرعا على الزوجة وفقا للتالي:
- إذا أوفاها الزوج معجل صداقها،
- وهيأ لها المسكن الشرعي المناسب لهما،
- وطلبها إلى هذا المسكن، ولم يوجد مانع شرعي.
بداية إن إلزام الزوجة بالطاعة ومن تسميتها هو إنتقاص من حريتها وإنسانيتها. وقبل الدخول في تفاصيل هذه الشروط، نذكر بأمر بديهي مفاده أن الزواج هو عقد أساسه التراضي بين الطرفين، ويرتب حقوقا وواجبات بالتوازي لطرفيه. وكأي عقد يفترض وجود توازن في الموجبات الناشئة عنه، إستقر الفقه أن للزوج الحق في الطاعة والقرار في البيت وهذا واجب على الزوجة، وبالمقابل على الزوج واجب النفقة والمهر وتأمين المسكن الشرعي وهذا حق للزوجة. وفي أحكام الأحوال الشخصية لقدري باشا، وتحت باب ولاية الزوج وما له من حقوق بحسب المادة 207 أن للزوج بعد إيفاء المرأة معجل صداقها أن يمنعها من الخروج من بيته بلا إذنه في غير الأحوال التي باح لها الخروج فيها كزيارة والديها في كل أسبوع مرة ومحارمها في كل سنة مرة وله منعها من زيارة الأجنبيات وعيادتهن ومن الخروج الى الولائم ولو كانت عند المحارم، وكذلك المادة 212 وتحت فصل فيما على الزوجة من الحقوق لزوجها تؤكد على مبدأ طاعة الزوجة لزوجها. وبالمقابل نجد المادة 214 من الأحكام نفسها وتحت فصل فيما للمرأة من حقوق تعتبر في حال لم يوفِ الزوج المرأة ما تعورف تعجيله من مهرها جاز لها الخروج من بيته بلا إذنه، ولا تكون بذلك ناشزة ولا تسقط نفقتها.
من هذا المنطلق، نفهم ربط حقّ الزوج بتقديم دعوى الإطاعة بدفعه معجل المهر وتأمينه مسكنا شرعيا لزوجته. وإن ربط حق الزوج بالطاعة، بوصول معجل المهر للزوجة إذا ما سلمنا أن الطاعة حق للزوج، وإن كانت محاولة بهدف إحداث توازن في الموجبات بين طرفي العقد، فإن التجربة أثبتت أنها مقاربة غير عادلة وأن مفعولها عكسي ويحدث إضطرابا في العلاقة بين الزوجين. وهو ربط لموجب مادي بحت (المهر) بموجب معنوي من نوع آخر وهو الطاعة، ولا ينسجم مع المقصد الأساسي للزواج وهو المودة والرحمة والسكينة بين الزوجين. إضافة الى ذلك فإن معيار الطاعة هو غير محدد وفضفاض وسهل التعسف من قبل الزوج. وفي دراسة أجرتها هيومن رايتس وتش قالت ست سيدات أن أزواجهن هددوهن بدعوى الطاعة والمساكنة حين طلبن الطلاق، وبالتالي هددوا حقوقهن في النفقة الزوجية وربما في حضانة الأطفال. وقد قامت هيومن رايتس ووتش بتحليل ل 40 حكما صادرة في قضايا إطاعة ومساكنة أمام المحاكم السنية والجعفرية، ومن بين الأحكام ال40 قام القاضي في 23 منها بأمر الزوجة بالعودة الى منزل الزوجية وبالتالي فقد ألزمها بهذا وإلا فقدت حقوقها المالية. وفي 21 من هذه القضايا أمر القاضي الزوجة بمساكنة زوجها حتى حينما قررت أنها لا تريد مواصلة الزيجة. وفي الحالات ال17 التي لم يحكم فيها القاضي بنشوز الزوجة، رفضت المحكمة دعوى الإطاعة لأن الزوج لم يدفع مؤخر الصداق أو لتوصل الزوجين إلى إتفاق أثناء المحاكمة.(1)
ويؤكد الشيخ أحمد كريمة أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن قانون الطاعة بعيد كل البعد عن الإسلام، ويضيف “لا يمكن إكراه الزوجة على أن تعيش بالرغم منها مع زوجها، فالمرأة لا يمكن أن تصبح أسيرة. أساس المعيشة هو الرضا والإيجاب والقبول. وفي حال عدم وجود تلك الأمور، فأسلم حل هو الحصول على الطلاق أو الخلع”.(2)
وفي مصرتستند دعوى الطاعة الى المادة 25 من القانون الصادر عام 1929 كما القانون رقم 100 الصادر عام 1985، وفي الماضي كان بإمكان القاضي بأن يأمر في إستخدام القوة لإعادة المرأة إلى بيت زوجها مستعينا برجل شرطة يقتاد المرأة حتى بيت زوجها تحت الحراسة الأمنية لكن القانون رقم 44 لسنة 1979 أوقف ذلك وعدل إمكانية تنفيذ حكم الطاعة بالقوة.
ولعل أبرز ما قيل في دعوى الطاعة ما كتبه القاضي أحمد أمين في مذكراته، حيث ذكر: ظللت أحكم بالطاعة وأنا لا أستسيغها ولا أتصورها. كيف تؤخذ المرأة من بيتها بالشرطة؟ ومن بعد ذلك توضع في بيت الزوج بالشرطة أيضاً؟ وكيف تكون هذه حياة زوجية؟” يضيف أمين: “إنني أفهم أن قوة الشرطة في تنفيذ الأمور المادية، كرد قطعة أرض إلى صاحبها، ووضع محكوم عليه بالسجن، وغير ذلك من المسائل المالية والجنائية، أما تنفيذ المعيشة الزوجية بالشرطة والقوة الجبرية المصاحبة لها، فهذا لم أفهمه مطلقاً إلا إذا فهمت حباً بالإكراه أو مودة بالسيف”.(3)
وبالرغم من تعديل القانون في مصر، ولو أنه في لبنان لا ينفذ حكم الإطاعة بالقوة، يكفي من هذه الدعوى اسمها لتشعر المرأة بالمذلة والإهانة وهي تواجه طلباً رسمياً بواسطة المحكمة يلزمها بإطاعة زوجها، والخضوع لرغباته مقابل إيداع معجل المهر وتأمين مسكن شرعي لها.
كما أنّ العديد من النساء يفضّلن الرضوخ لمعاملة الزوج مهما كانت سيئة على الوقوف أمام المحكمة في دعوى إطاعة. من هذا المنطلق نفهم الحبّ بالإكراه والمودة بالسيف في دعوى الإطاعة ولو بالشكل المعنوي.
2- عدم طاعة الزوجة لزوجها تؤدي إلى كلفة باهظة على حقوقها:
بحسب الفقه التقليدي الأصل في الزوجة الطاعة، وأنها إذا إمتنعت عن طاعة الزوج تكون ناشزة، وتسقط نفقتها عليه من تاريخ هذا الإمتناع، وسبب ذلك برأيهم أن الشريعة الإسلامية جعلت حقوق الزوجية، وواجباتها متقابلة، فألزمت الزوج بالإنفاق على زوجته في حدود إستطاعته، وأوجبت على الزوجة طاعته بأن تستقر معه في منزل الزوجية الذي هيّأه.(4) ونجد تعريفا “للناشزة” في المادة 171 من أحكام محمد قدري باشا: “الناشزة وهي التي خالفت زوجها وخرجت من بيته بلا إذنه بغير وجه شرعي يسقط حقها في النفقة مدة نشوزها وإن كانت لها نفقة مفروضة متجمدة تسقط أيضا بنشوزها…”.
وبحسب المادة 8 من القرار رقم 46 الصادر عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى عام 2011، لا نفقة للزوجة إذا تركت بيت الزوجية من دون عذر شرعي.
وفي حكم لها، قضت لمحكمة الشرعية السنية العليا بأن إستحقاق النفقة للزوجة تكون مقابل الإحتباس وليس مقابل قيام الزوجية. ونقرأ حرفيا:
“وحيث ان رفض المستأنف ضدها العودة الى مساكنة زوجها يعني نشوزها وبالتالي تسقط نفقتها ولا عبرة بما ذكرته من استحقاقها النفقة لأنها ما زالت على ذمته لأن إستحقاق النفقة شرعا مقابل الإحتباس لا مقابل قيام الزوجية.”(5)
كما أن صفة ناشز التي توصف بها المرأة التي ترفض الطاعة هي عبارة توحي بالعقاب الإجتماعي، إضافة إلى أنه وعند الحكم على الزوجة بالنشوز يترتّب على ذلك، وإضافة إلى سقوط حقها بالنفقة كعقوبة، يؤثر النشوز على نسبة المسؤولية في دعوى التفريق. فمن المعلوم أن عند تقديم دعوى تفريق لا يصدر الحكم إلا بعد قيام القاضي بتحديد نسبة المسؤولية الواقعة على الزوجين في التسبب في التفريق وإذا وجد القاضي أن الزوجة مسؤولة عن التفريق يتم تخفيض قيمة المؤخر بنسبة مسؤوليتها. وإن الحكم على الزوجة بالنشوز وعدم طاعة زوجها يزيد من نسبة مسؤوليتها في دعوى التفريق مما ينعكس سلبا على حقوقها المالية.
وعند تقديم دعوى إطاعة، تصبح الزوجة أمام خيارين: إما الرضوخ للزوج والعودة إلى المنزل وإما أن يحكم عليها بالنشوز. وفي أغلب الحالات تلجأ النساء إلى التقدم بدعوى تفريق لإيقاف دعوى الإطاعة ولكن أيضا في هذه الحالة تسقط نفقتها حكما بناء على إجتهاد مستقر من المحكمة الشرعية السنية العليا إذ تعتبر “دعوى التفريق تصلح دفعا لدعوى النفقة” (6) .
وبالمقابل، إذا ما سرنا بنفس المنطق وبمقاربة العلاقة الزوجية بتوازن بين الطرفين للحقوق والواجبات، وإذا ما سلمنا أن الطاعة واجبة على الزوجة بمقابل وجوب النفقة على الزوج، نجد بالعودة إلى أحكام قدري باشا وبقراءة حرفية لنص المادة 211 ” إذا إشتكت المرأة نشوز زوجها وضربه إياها ضربا فاحشا ولو بحق وثبت ذلك عليه بالبينة يعزر”.
والمقصود بالتعزير أن يفرض القاضي العقوبة الملائمة على الزوج في هذه الحالة، أي لا وجود لعقوبة منصوص عليها في القانون. وبمقارنة بسيطة نجد أن المرأة التي تخرج من بيت الزوجية من دون إذن زوجها يترتب عليها سقوط حق أساسي لها ناتج عن العقد وهو النفقة ويؤثر سلبا لناحية نسبة المسؤولية في دعوى التفريق وخسارتها جزءاً من حقوقها المهرية. أما عندما يقدم الزوج على ضرب زوجته ضربا فاحشا يكتفى بإعطاء القاضي سلطة تقديرية بفرض عقوبة، ولا يوجد نص يسقط أي حق من حقوق الزوج ولا سيما حقه في الطاعة إذا ما سلمنا أنه حق.
ومن هذا المنطلق، نفهم بعض الأحكام القضائية باعتبارها أن خروج الزوجة من مسكن الطاعة وعدم عودتها اليه يعتبر نشوزا مانعا لإستحقاقها النفقة ولو إدعت ضربه إياها وإيذاءه لها مما يستلزم تعزير الزوج حتى يقلع عنه لا خروجها عن طاعته.
ونقرأ حرفيا في كتاب مبادئ القضاء في الأحوال الشخصية لأحمد الجندي الحكم التالي:
“وبما أنه ثابت من أقوال وكيل المستأنف عليها أنها إستشكلت في حكم الطاعة، وأنها خرجت من مسكن الطاعة من تاريخ الإشكال، ولم تدّعِ أنها عادت إليه بعد ذلك. وبما أن خروجها من مسكن الطاعة على هذا الوجه يعدّ نشوزا مانعا من إستحقاقها النفقة على زوجها، وما دفعت به من أن زوجها المستأنف ضربها ضربا خارجا عن حد التأديب الجائز شرعا، على فرض صحته، فإنه لا يسوغ لها الخروج من طاعة زوجها، وإنما اللازم في هذه الحالة أن يعزر الزوج بما يمنعه من العود إلى مثل هذا الإيذاء، وقد حكم عليه بغرامة نظير ما وقع من إيذائها وهذا يعد تعزيراً”(7)
نرى في هذا الحكم أنه كان واضحا أن ضرب الزوج لزوجته خارج حد التأديب وعلى فرض صحته لا يؤدي إلى سقوط حقه في الطاعة. فقد إكتفى الحكم بفرض غرامة على الزوج. بينما خروج الزوجة من مسكن الطاعة وهو فعل يعدّ بالمنطق وببديهيات الأمور أقل جسامة وخطرا من الضرب أدى إلى عقوبة أكبر من عقوبة الزوج وهي سقوط حقها في النفقة.
لذلك، يتبدى لنا بوضوح عدم التوازن واللاعدالة في الموجبات، وأن معادلة الطاعة في مقابل النفقة معادلة غير متساوية، إذ لا يمكن للقانون سيما في مجال العقود وأكثر تحديدا في عقد الزواج أن ينحاز لطرف دون الآخر.
3- المطلوب التوجه نحو مساواة الوضع القانوني للزوجين:
في عام 1994، نشرت لجنة السيداو تفسيرا مرجعيا لمبدأ المساواة في الزواج والطلاق. وهو يقرر صراحة أنه أيا كان النظام القانوني، أو الدين أو العرف أو التقاليد داخل البلد، يجب أن تتفق معاملة المرأة داخل الأسرة في القانون مع مبدأي المساواة والعدل بين جميع الناس.(8)
وبما أن الزواج هو عقد لذلك يتطلب التعادل في الموجبات القانونية المترتبة على أطرافه، وخاصة في عقد الزواج كونه يرتبط بأمور حياتية ومعنوية أكثر منها مادية. فالمطلوب التوجه نحو مساواة الوضع القانوني للزوجين في الحقوق والمسؤوليات، والتحوّل من فكرة وجوب تمايز الرجل والمرأة في الأدوار والواجبات حسب نوع كل منهما، إلى فكرة تبادليّة الحقوق والمسؤوليات.
وإذا ما أخذنا مثالا عمليا نجد أن في المغرب تم إلغاء بيت الطاعة والنشوز في قانون الأسرة الجديد الصادر عام 2004 وقد جاء في ديباجة القانون وأسبابه الموجبة: “إنصاف المرأة، وحماية حقوق الطفل، وصيانة كرامة الرجل، في تشبث بمقاصد الإسلام السمحة، في العدل والمساواة والتضامن، واجتهاد وانفتاح على روح العصر ومتطلبات التطور والتقدم. وتبني صياغة حديثة بدل المفاهيم التي تمس بكرامة وإنسانية المرأة وجعل مسؤولية الأسرة تحت رعاية الزوجين”.
وقد كان الزوج في ظل قانون الأحوال الشخصية المغربية الصادر في 1957، هو رأس الأسرة وعليه واجب الإنفاق على زوجته في مقابل طاعتها له. أما قانون الأسرة الجديد فقد أحدث قطيعة مع معادلة النفقة في مقابل الطاعة، حيث عرّف الزواج بأنه شراكة بين متساويين. وقد أدخل القانون إصلاحات جوهرية وتحول في فلسفة القانون من الإنفاق في مقابل الطاعة إلى إقتسام المسؤولية.
ختاما، يقول الشيخ عبدالله العلايلي :” لَيْسَ مُحَافَظَةً التَّقْلِيدُ مَعَ الخَطَأِ؛ وَلَيْسَ خُرُوجًا التَّصحِيحُ الَّذِي يُحَقِّقُ المَعْرِفَةَ ” فأصبح لزاما الخروج من التقليد الأعمى لما توصل إليه الفقهاء الأوائل من أحكام بنيت على الظروف الإجتماعية المرتبطة بالزمان والمكان والتي لم تعُدْ تأتلف مع زماننا، ومن إنكماش الفقه الكلاسيكي الذي يعتبر الطاعة حقا للزوج ناشئا عن عقد الزواج ويربطه بحق الزوجة بالنفقة. كما أضحت ضرورة تصحيح هذا الوضع القانوني إنطلاقا من مبادئ العدالة والمساواة، وبناء على المادة 16 من إتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (السيداو) بجعل الحقوق والواجبات متساوية بين الزوجين، وإلغاء كل ما يتعلق ببيت الطاعة وبنشوز الزوجة والتي هي عبارات ثقيلة على السمع قبل أن تكون مليئة بالإهانة وبالوصمة الإجتماعية على المرأة وتعبر عن عصور بعيدة خلت.