الولي سيدي هيبه
“ترجل الكثيرون ممن يسمون أنفسهم بالمثقفين عن أدوارهم التاريخية، واستقالت عقولهم وأقلامهم عن مهمة التفكير والإبداع، وركنوا إلى المناصب والألقاب وتبرير الأوضاع القائمة مقابل التعيش من موائد أصحاب السلطة والنفوذ والمال”.
بعيدا عن السياسة وجلبتها وفي لب تجاهل سدنتها أيضا لغير بحثهم المضني عن تحصين المواقع وإعداد أسلحة الهجوم والدفاع، تمر الثقافة في بلاد “التناقضات الكبرى” بأسوء لحظاتها المقفرة حيث لا حضور، على مسارحها المفترضة، لوجوهها القديمة وكأن أصحابها استسلموا من بعدما أخفقوا وقد عجزوا عن ملء الهوة الكبيرة الحاصلة بين الإرث المهمل والدور المنوط بهم في الحفظ والتحيين، ولا كذلك وجوه جديدة بطابع العصر وحيويته وتنوع وسائله للالتحام بحركة الثقافة العالمية أخذا وعطاء.
في تراثنا أمثلة جارية على الألسن تشف عن مستوى من الحكمة عمل الأجداد بمقتضى مضامينه فحققوا قدرا مقبولا من رقي التفكير وأحاطوا بمنظومة أخلاقية عالية استقوا لبها من روح الإسلام فأصروا على تكييفها مع النفسية “السيباتية” الغالبة حتى أطروا “الظلم” في قوالب محسوبة تمنع الانفجار وتضمن استمرار حكم التفاوت الطبقي بـ”أقل الأضرار”.
أمثلة مازالت تدار بها كؤوس مدامة العزوف “السيباتي” عن إشغال السواعد في “الطاعة” فلا تنشغل بـ”المعصية”، وعن “تطهير” التفكير بالمخرج الجاد من آفة “الادعائية” وسقطات “الاستعلاء” الوهمي حتى لا يتعطل التحصيل “السهل” بكل الوسائل والأثمان المريبة.
في خضم هذا الضعف الحاصل، من جراء الغياب الصارخ للاستراتيجيات والسياسات الثقافية العلمية والواعية والمنهجية، تتخبط الجهات المكلفة بالقطاع في ارتجالية بادية ومحاولات يائسة لالتقاط قشور المرئي من دفق الاستراتيجيات والسياسات الثقافية لدول العالم ومحاولة محاكاته بابتذال خائر لا تخفى إخفاقاته المتكررة.
في أرجاء العالم تظهر المهرجانات التي تقام كركن حيوي مكين من أركان التنمية و”اقتصاد” واستثمار يدران الأموال الطائلة ويحجزان المكانة المرموقة في قطار الحضور وعلو الشأن (ريو دى جنايرو Rio de Janeiro ، وهافانا بكوبا Cuba، وقرطاج بتونس، وفاس بالمغرب، “التنين” في الصين، ومهرجان الزهور في إيران، والأهرامات في مصر، و”الجنادرية” في السعودية، و”جرش” في الأردن، و”بعلبك” بلبنان و”تدمرPalmyre ” بسوريا، واللائحة طويلة). وهي المهرجانات التي ليست ذلك “الترف” الذي نعتقد، بسذاجة،عند مشاهدتها على شاشات التلفزيون، كما أنها تشكل فضاءات مشرقة وحيوية ومساحات غنية لبيع التاريخ والتراث والثقافة بأثمان باهظة عبر صناعة السينما والمسرح وتفعيل التاريخ ونشر الفكر، ولكنها المهرجانات عندنا التي تظهر بما لا يدع مجالا للشك قصورنا عن حفظ وتثمين الذاكرة، وعجزنا عن التفاعل الحضاري والتغلب على انحطاطنا الثقافي والفكري وغيابنا عن فضاءات الفن “لغة” كل العصور ورافعة الجسور وسجل لمعان الحضارات وتميزها، وتغيير حقيقة أننا أمة لا عطاء لها في غياب مسرح يُنور العقول، وسينما تخاطب الوجدان، وإبداعات فنية تصقل المواهب وتفتح الذائقة الجمالية، وقصص و روايات تنافس في المعارض أو تتحول إلى أعمال مسرحية وسينمائية تعرف بالخصوصية، وفن يبرز المواهب، ومعاهد لتحيين الموسيقى وتحميلها أوجه الحداثة، وشعر ملتزم، ونقد بناء وموجه، وكأننا في كل هذا تمثلنا مثل الأجداد “الل غلبتو الدنيا إكول الآخرة جات”.
ومما لا شك فيه أن ضعف هذا الواقع الثقافي المرير هو ما زج به في ورطة فكرية وثقافية لا تخطئها العين ولا ينكرها حجم الخواء الصارخ.
فكيف إذن لأهل بلد، بالكاد، بدأت أعناق غالبية أهله في الداخل المنكوب تشرئب إلى رؤية الجفافَ يجر أذياله الثقيلة ويسحبها بعيدا عن مقعد أمل أهداه “الغيث” للعباد بأمر من الرحمن بعدما تأذوا من غيابه طويلا؛ كيف لهم أن ينصرفوا سريعا إلى اللهو والرقص والغناء وعرض مهين لتراث مضطرب وقلق على أنغام يحتاجها الصابرون على السعي الدؤوب المضني لتغيير الأحوال الصعبة، وإلى حكاية شعر آن له أن يلتزم ليصحب التحول المطلوب بإلحاح.
ومن أجل إخفاء كل هذا الضعف والانكسار نظمت سلسلة من المهرجانات التي تستنزف من الخزينة أمولا طائلة ولا تقدم للدولة شيئا ولا ترفع للبلد شأنا. هي واقع الأمر ملهاة ومحاكاة، كل جهة تريد لها مهرجان ومن ينظمه وهي في الحقيقة أيام تمر بلا فائدة ولا مردودية على الوطن الذي يحتاج إلى السواعد للبناء وإلى أن تكون الثقافة مهتمة بالبناء والإنتاج. كل هذا معطل وخائر لا أسس له ولا طاقات بشرية متخصصة ومكونة ومدربة على تنظيمها بعد دراسات محكمة تستطيع رفع التحدي فيه.
وبالتالي، فإن هذه المهرجانات المتتالية هي استنزاف للمال العام وإرضاء لجهات متحكمة في كل الولايات والبلدات والمدن والقرى. أنى للبلد بكل هذه المهرجانات وليست لنا طرق ولا شبكة قطارات ولا مطارات ولا بنية تحتية فندقية ملائمة ولا دور شباب أو مسرح أو عروض أو معارض.
ولو كانت هذه البنى التحتية قد وجدت لكان الموطنون والمهتمون من السياح والباحثين يتوجهون إلى هذه المهرجانات للمشاركة والاطلاع والاستكشاف والتبادل والاستجمام والتمتع، فينفقون المال في الحراك والفنادق والطعام ولاقتناء منتجات الصناعة التقليدية وغير ذلك.
لكن الذي يجري في بلاد المليونيات هو عبارة عن سحب الوزارة لأموال طائلة من الخزانة العامة وصرفها على غير ما هدى ليتقاسمها المسؤولون والمنظمون الارتجاليون وبعض الموظفين المنتقون من الوزارة على معايير غرضية، والآخرون ممن يتم التعاقد معهم تحت عناوين براقة وخاوية ليضيع المال في النهاية من بعد ما يظهر المخرج هزيلا في الغالب الأعم ثم تطوى النسخة إلى نسخ موالية باهتة مشابهة. البلد في ورطة ثقافية يتوجب التذكير بها عاليا تظهر من خلال تشويه التراث في المهرجانات وابتذاله وتشويهه فلا يبدو صدقا ولا مقدما كما هو بأمانة.
وليست مهرجانات الشعر والقراءة المترهلة في فن الرواية “الغائبة” في المبنى والجوهر، والقصة القصيرة “الممتنعة” بأوفر حظا من الشعر ولا أكثر منه إحاطة بالنقد الموجه البناء الملتزم الصادق، تشبهها في ذلك الكتابة المسرحية الهزيلة والمفتقدة إلى دفء الاحتضان.