لم تدم فرحة الوطن طويلا ويا للأسف؛ إذ سرعان ما اختُطِفَتْ حركة 12 /12/ 1984 الوطنية المجيدة من بين أيدي الشعب، وزج بها في متاهات موحشة كان من طرائقها المدمرة:
- استسلام السلطة لإرادة المؤسسات النقدية الدولية الرأسمالية، وخضوعها لهيمنة السفارات الأجنبية، وإطلاقها يد اللبرالية المتوحشة التي لا ترعى إلا ولا ذمة في استغلال وسلب المواطنين العزل.
- زرع الفتن العرقية والقبلية والجهوية والإقليمية، وتكريس الظلم والبغي، وتشجيع عوامل الحرب الأهلية في المجتمع والجوار (فتن 89، 90، 91).
- انتهاك وتعطيل الدستور عن طريق إلحاق مادة غريبة بجسمه بعد إجازته، هي المادة 104 سيئة الصيت التي أفرغته من محتواه وعلقت العمل بجميع الحريات الواردة فيه.
- نكران ووأد الديمقراطية والحرية (تزوير الانتخابات، مصادرة ووقف الصحف، حظر التجمع، حل الأحزاب والجمعيات، والزج بالأبرياء في غياهب السجون والمنافي)!
- خراب الاقتصاد (التنازل عن مؤسسات القطاع العام دون مقابل، تدمير الصناعة والزراعة، نهب الثروات الوطنية والمال العام، تقزيم خطط التقييم الاقتصادي التي ترعاها المؤسسات الدولية لتصبح كومة أرقام مزورة).
- هدر الإنسان الموريتاني (انتشار البطالة والفقر والجهل والمرض، وتكدس مئات آلاف العائلات في أحياء الصفيح المتراكمة، وفساد التعليم والصحة والأخلاق والقيم ..إلخ).
- الارتماء في أحضان إسرائيل وفتح وكر لها في موريتانيا أطلقت منه يدها الآثمة في تفتيت وتخريب البلاد ونشر الفساد.
- تعطيل القانون، وترسيخ نهج الإفلات من العقاب.
(انظروا "حتى لا نركع مرة أخرى" ص 11، 12، 13).
هـذه هـذه مدائن "يحــــيى" ** و"ابن تاشفين يوسف" ثم "غانا"
بعد ما كان من جمال صباه ** وسناها وكان منها وكانا
أصبحت بعدهم قبائل شتى ** تلعق الذل تـدمن الإذعانا
تتفشى روائح الخزي منها ** والتلاشي وتنبت الخذلانا.
لقد أقبل الليل مرة أخرى إذن! وجثم على البلاد بكلكله أزيد من عشرين سنة.
لم يستسلم أبناء موريتانيا أبدا في هذه المرة أيضا؛ بل قاوموا وناضلوا على كل الجبهات.. وخاصة على جبهتين أساسيتين ظلتا مشتعلتين حتى النصر؛ هما جبهة النضال السياسي والإعلامي، وجبهة "الدفاع".
ففي المجال السياسي والإعلامي وفي مواجهة الانحطاط والاضطهاد والقمع والتعصب القومي والتصفية العرقية أعلن الوطنيون الموريتانيون على رؤوس الأشهاد إرادة التغيير وإرساء الديمقراطية ومبدأ المساواة بين مختلف أعراق ومكونات وجهات الوطن وحق المواطنة للجميع وصدحت حناجرهم بهذا النداء:
"نحن يالداير همنا ** واتگول انك تبغينا
بــونَ آدم وامــنـــا ** حــــواء اُمسلمينا".
تماما مثلما فعلوا في الستينيات عندما كان الاستعمار الجديد مخيما والعبودية منتشرة في البلاد، فأعلنوا مبدأ الحرية والمساواة بين الجميع أسيادأ وعبيدا:
آنا گــــدك ** وانـــت گـــدي
مـــان عبدك ** مانـك عبـدي.
ثم انخرطوا في النضال من أجل الديمقراطية وإنهاء النظام العسكري (بيان الخمسين) وأسسوا الأحزاب (اتحاد القوى الديمقراطية) والجمعيات الوطنية والديمقراطية المناهضة للنظام العسكري وللعنصرية والقمع، والعاملة على صيانة الوحدة الوطنية وتوطيد اللحمة الاجتماعية، وخاضوا النضال الوطني السلمي من حملات انتخابية، ومهرجانات، ومسيرات ..إلخ. وأصدروا الصحف والمناشير التي ساهمت مساهمة فعالة في نشر الوعي الوطني الديمقراطي وخلق رأي عام يعمل على إخماد نار الفتن، وتوطيد اللحمة الاجتماعية: ربيع انواكشوط بداية 1992، ثورة الخبز ثم البلديات والنيابيات أيضا.
وفي جبهة "الدفاع" تشكل لفيف دفاع ضم فريقا رائعا من المحامين كان مضرب مثل وكهف حقوق تشبث بالشرعية في أحلك الظروف، وحمى الحريات ودافع عن سيادة القانون؛ دافع في أيام مشهودة عن قضايا كان من أبرزها:
- أرامل ويتامى التصفية العرقية، والمهجرون، الأمر الذي حدا بالبرلمان الأحادي إلى إصدار بيان شهير دعا فيه إلى معاقبة المحامين. وعلى إثر تلك الدعوة فقد أعضاء اللفيف جميع مصالحهم وعقودهم مع مؤسسات الدولة وجل أعوانها.
- قادة حزب اتحاد القوى الديمقراطية في انواذيبو (معالي الوزير اليدالي ولد الشيخ رحمه الله وصحبه المعتقلون على خلفية رفض تزوير الانتخابات الرئاسية في يناير 1992).
- الحقوقيون الحقيقيون قبل أن تصبح الحقوق بضاعة تتاجر بها أمريكا: الأستاذ إبراهيم ولد أبتي، السيد بوبكر ولد مسعود الأستاذة فاطمة امباي.
- مختلف قيادات وتيارات حزب البعث: القيادة التاريخية الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل والأستاذ اممد ولد أحمد وآخرون، أبو عزيز رحمه الله وآخرون، طليعة الأستاذ خطري ولد الطالب جدو رحمه الله، وآخرون .. الخ.
- الناصريون.
- قادة حزب اتحاد القوى الديمقراطية عهد جديد. وحزبا اتحاد القوى الديمقراطية عهد جديد، والعمل من أجل التغيير عندما تعرضا للحل.
- الرئيس اشبيه بن الشيخ ماء العينين رئيس حزب الجبهة الشعبية.
- قادة منظمة ضمير ومقاومة.
- الرئيس محمد خونه ولد هيدالة وصحبه في مؤامرة "اگراب".
- الصحف والصحفيون.
- الإسلاميون بمختلف طوائفهم وأفواجهم؛ وخاصة الشيخ محمد الحسن ولد الددو وجميل ولد منصور والمختار ولد محمد موسى، وأئمة المساجد والمحاظر المضطهدون.
- قادة انقلاب 8 يونيو 2003، والرؤساء أحمد ولد داداه ومحمد خونه ولد هيداله والشيخ ولد حرمة المتهمون بالمشاركة في انقلاب صالح ولد حننه وصحبه.
ففي جميع هذه المعارك القضائية الطاحنة التي دارت في انواكشوط وانواذيبو وكيهيدي والعيون ووادي الناقة، واستغرق بعضها 75 يوما وليلة (محاكمة وادي الناقة) وواكبت وتجاوزت أحيانا النضال السياسي والإعلامي المستعر، لم يتمكن اللفيف من تبرئة جل الذين دافع عنهم فحسب؛ بل أنقذ كذلك قادة انقلاب يونيو 2003 من إعدام محقق.. وهيأ الأرضية السياسية والاجتماعية لانبثاق ونجاح حركة الثالث من أغسطس 2005 المجيدة؛ وذلك بانتهاجه أسلوب الدفاع المتَّهِم الذي يعتمد القطيعة مع القوانين والإجراءات المتبعة وينفي شرعية النظام انطلاقا من مشروعية الخروج عليه ويضعه في قفص الاتهام بدل أن يكون فيه المتهَم!