بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه الكريم
يعترض بعض أهل العلم والفضل ممن لا نشك في حرصهم على الخير واتباع السنة على عيد المولد النبوي الشريف بقولهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحتفل به، ولا فعل ذلك الصحابة، ولا التابعون أو الأتباع من بعده، ولو كان عملا صالحا لسبقونا إليه، وبأنه بدعة ابتدعها الشيعة العبيديون، وبأن السنة المشروعة الوحيدة في هذا اليوم هي الصوم تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصوم يوم الاثنين ويقول: ((هو يوم ولدت فيه))، وبأن تسمية ذكرى مولده بالعيد لا تجوز، فلا عيد للمسلمين إلا الفطر والأضحى، وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يولد في الثاني عشر ربيع الأول بل توفي في هذا التاريخ، فالمحتفل به في هذا التاريخ محتفل بوفاته صلى الله عليه وسلم لا بمولده..
والواقع أن هذه الأقوال -وإن صدر بعضها من بعض كبار أهل العلم والفضل- إما مرجوحة، أو خارج محل مناط بناء الأحكام، أو شبهات، أو مموهات لا تمنع من الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف، ولا من تسميته عيدا حسب ما قرره جمهور علماء الإسلام، وأئمته الأعلام المرجوع إليهم في تقرير الحلال والحرام.
فأما قولهم بأن الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف من مبتدعات الشيعةالعبيديين، فليس لهم فيه إلا روايات تاريخية هنا وهناك لم تحط في هذا العيد بأمر حاسم، حيث إنها لم تثبت أنهم لم يسبقوا إليه في العهود والدول الإسلامية السنية التي سبقتهم أو عاصرتهم، ولكنها تحدثت عن احتفالهم به في دولتهم، مع أنه إن ثبت أنهم لم يسبقوا إليه لا يضره، لأن العبرة بطبيعة الفعل لا بطبيعة الفاعل، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء لأنه يوم نجى الله تعالى فيه موسى، لم يمنعه من صيامه أن اليهود كانوا يصومونه، بل قال: نحن أحق منهم بموسى، فكذلك أهل السنة أحق بالرسول صلى الله عليه وسلم من الشيعة العبيديين، مع أن الذي فعله العبيديون من ذلك انتهى بانتهائهم واندثر باندثارهم، ولم يزل الأمر كذلك حتى أظهره السلطان السني مظفر الدين زوج أخت السلطان صلاح الدين الأيوبي صاحب إربل، وكان أحد السلاطين النادرين الموصوفين بالورع والعلم والصلاح، وصفه ابن كثير بذلك فقال عنه إنه "كان إماما عالما عادلا بطلا عاقلا"،وقال عنه ابن سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان إنه"كان زاهدا، لباسه إذا ترك سرير الملك وعاد إلى بيته، قميص من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم"،ووافقه على إظهاره والاحتفال به أئمة الإسلام في زمانه، فحرروا حكمه وبينوا مشروعيته في مؤلفات مشهورة منها مؤلف الحافظ ابن دحية "التنوير في مولد البشير النذير"، كما نقل ابن كثير، وابن خلكان، وابن سبط ابن الجوزي، والسيوطي، وغيرهم، فالطعن في عيد المولد بالقول بأنه بدعة عبيدية إذًا طعن في غير محل.
وأما قولهم إن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول أمر لم يثبت بينما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم توفى في هذا التاريخ، فالمحتفل بالثاني عشر من ربيع الأول محتفل بوفاته صلى الله عليه وسلم لا بولادته فقول غير صحيح، لأن الثبوت الذي نقلوه في تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الثاني عشر ربيع الأول لا وجود له، بل من المؤكد أنه صلى الله عليه وسلم لم يتوف في الثاني عشر ربيع الأول إطلاقا، لأن العلماء اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم الجمعة الموافق للتاسع من ذي الحجة، وتوفى يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري:"فمهما فرضت الشهور الثلاثة محرم وصفر وربيع الأول توامَّ أو نواقص، أو بعضها، لم يصح"، أي لم يصح أن يكون يوم الاثنين الذي توفى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم موافقا للثاني عشر من ربيع الأول.نقل ابن حجر العسقلاني ذلك عن السهيلي،كما نقله غيره، وحرره جمع كبير من العلماء فوجدوه كذلك، كما بين ابن حجر في الفتح، بل الأصح في تاريخ وفاته صلى الله عليه وسلم أنه يوم الاثنين الموافق للثاني من ربيع الأول، قال ابن حجر:"وكأن سبب غلط غيره أنهم قالوا مات في ثاني شهر ربيع الأول، فتغيرت لفظة ثاني شهر إلى ثاني عشر، واستمر الوهم بذلك، يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل".
وهذا القول الذي صحح ابن حجر ووافق ترجيح السهيلي وغيره كأبي مخنف والسمهودي وسواهم مطابق لما في الحديث الحسن من أنه صلى الله عليه وسلم "عاش بعد نزول ءاية ((اليوم أكملت لكم دينكم)) واحدا وثمانين يوما"، فواحد وثمانون يوما من الجمعة تسعة ذي الحجة توافق الاثنين اثنين ربيع الأول، ولا يصح بحال من الأحوال أن تمتد إلى اثني عشر ربيع الأول، فثبت بذلك أنه لم يتوف في الثاني عشر من ربيع الأول كما قالوا.
أما مولده صلى الله عليه وسلم فالتحقيق فيه أنه كان يوم الاثنين تسعة ربيع الأول كما رجحه الحافظ ابن عبد البر، وجمع وافر من العلماء، وأثبته الفلكي الشهير محمود باشا المصري الذي حسب القهقرى من يوم الأربعاء منسلخ شوال سنة عشر للهجرة، وهو يوم كسوف الشمس الذي مات فيه إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم إلى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، فوافق الاثنين عشرين إبريل تسعة ربيع الأول،الذي رجحه الحافظ ابن عبد البر وعدد من العلماء المحققين.
والأصل في اشتهار الثاني عشر من ربيع الأول كيوم لمولده صلى الله عليه وسلم دون غيره أن الملك المظفر لما أظهر عادة الاحتفال بالمولد، صار يحتفل به عاما في التاسع من ربيع الأول، وعاما في الثاني عشر منه، رعيا للقولين، فلما تطاول الزمان رأى العلماء أن يجمعوا الناس على الثاني عشر من ربيع الأول، لأن الولادة فيه متحققة على القولين معا، فيتحد بذلك العيد على جميع الأقوال.
وأما قولهم إن تسمية ذكرى المولد عيدا لاتجوز لقوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله شرع لكم عيدين عيد الفطر وعيد الأضحى))، ومن زاد عيدا ثالثا فقد زاد في الشرع ما لم يأذن به الله، فهو أقرب إلى كلام من لا أهلية له في العلم أو فاته تأمل النص، لأن قوله صلى الله عليه وسلم:((إن الله شرع لكم عيدين)) ليس من صيغ الحصر حتى يحرم به الاحتفال بعيد ثالث، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصر لفظ العيد على يومي الأضحى والفطر،فجعل الجمعة عيدا،وجعل أحد أيام منى عيدا، كما ورد في إحدى روايات البخاري في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ((دعهما فإن اليوم يوم عيد))، ولهذا قال المحققون:ليس في اتخاذ المسلمين لهم أعيادا أخرى -من قبيل ما نرى اليوم من أعياد مختلفة كأعياد الاستقلال والثورة والتحرير وغيرها- من بأس إذا كان لهم في ذلك مصلحة دينية أو دنيوية.
وهذا العيد، أي عيد المولد، ظهر للمسلمين فيه من المنافع والمصالح أكثر مما ظهر في الأعياد الأخرى التي لم يحرمها العلماء، فمن هذه المنافع تجديد الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام، واستشعار محبته وتعظيمه،والقيام بما يجب في حقه من إشهار مناقبه، والإكثار من الصلاة عليه، وإظهار الشكر لله تعالى في مثل هذا اليوم الذي كرم الله فيه هذه الأمة بمولده، وقد سمعت شيخنا العلامة الورع الزاهد الحجة محنض بابه بن امين حفظه الله تعالى يقول ما معناه:"إن عيد المولد كان يمكن قبل أن يصير عادة معروفة من عوائد المسلمين أن يكون محل اجتهاد ونظر من طرف العلماء، ولكن لما صار عادة متبعة منطوية على قصد تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وإظهار محبته، صار عدم النهي عنه أولى من النهي عنه، لأن النهي عنه أصبح كالمشعر بالنهي عن توقيره صلى الله عليه وسلم، أو عن تعظيمه ومحبته، وفي ذلك من المفاسد ما لا يخفى".
وقد سلك شيخنا محنض بابه هنا مسلكا فقهيا دقيق الوجه، بعيد الغور، كأنه ينبه إلى أن الاعتبار الشرعي لعيد المولد لا ينبغي أن يقتصر على إحداثه وما ينطوي عليه من المصالح، بل يجب أن يعتبر فيه أيضا النهي عنه وما يترتب عليه من المفاسد، لأن الفرار مما قد يؤول إلى الانتقاص من حرمة النبي صلى الله عليه وسلم أوجب بكثير من النهي عن بدعة الاحتفال بعيد المولد على فرض أنه بدعة.