على الطريق الرابط بين عاصمة ولاية الحوض الشرقي، النعمه ومدينة ولاته التاريخية، وفي المنتصف تقريبا بين “گلب انگادي” وقرية “انواودار”، ينتصب “خشم البهوه” شامخا كأبعد موقع إلى الغرب استطاعت سلسلة “السن” الجبلية احتلاله في حربها الجيولوجية ضد منخفض “الحوظ”، بتحريض خفي من “عَكل آوكار”…
يوجد على أعلى هذا “الخشم”، ضريح ضخم، تمكن مشاهدته على بعد عشرات الكيلومترات، فهو الأعلى والأشهر في المنطقة ولعله كذلك في كل موريتانيا؛ إنه المثوى الأخير للأميرة البلاوية الناسكة “البهوه بنت اعلي ولد علول”، تغمدها الله تعالى برحمته الواسعة وأسكنها الفردوس الأعلى من الجنة.
بالكاد يستطيع من يجيد تسلق المرتفعات ويتمتع باللياقة البدنية اللازمة ويتوفر على الوقت الكافي، الوصول إلى هذا القبر الفريد وذلك من الناحية الشمالية-الغربية فقط؛ فالجبال تحصنه شرقا والانحدارات الشديدة تؤمنه من الجهات الأخرى. لقد عشت في شبابي تجربة الصعود تلك مرات، فكنت في كل واحدة منها أحتاج إلى السير على أربع، أو الجلوس اضطراريا تهدئة للنبض والتقاطا للأنفاس وتفاديا للدوخة ؛ في هذه الظروف، كنت أستأنف الحركة بحذر مضاعف خوفا من الانزلاق فالتدحرج حتى سفح الجبل، علما بأنني لم أكن أحمل سوى ما أستحضره من دعاء للميت أويخطر ببالي من استفهامات يمليها المقام، فأقدم رجلا تلو الأخرى، مستعينا بالنتوءات النادرة و غير الآمنة دائما وببعض الشقوق التي نحتتها السيول والحرارة بصعوبة في هذه الجدران الصخرية، على مر القرون… فكيف، يا ترى، وصل نعش “الأميرة” إلى أعلى هذا الجبل؟ وكيف تم جهر (قهر) هذا القبر في أرضية صلبة وبأية أدوات، فرحيل “البهوه ” -رحمها الله تعالى- حدث قبل وصول المستعمر ومعداته التقنية المتطورة إلى منطقة “الحوظ”، بحوالي سبعين سنة؟ وكيف لسيدة تدّعي بعض الروايات المحلية أنها استشهدت على يد “الكفيه ولد بوسيف”، في أوج سلطانه، أن تحظى جنازتها بكل هذا التكريم الذي لم يظفر به أي من أمراء “الحوظ”؟ فمن كان سيجرؤ (حتى) على المشاركة في مراسيم دفن تقديرية لامرأة غدرها “الكفيه” في قلب مرابع الإمارة؟ أليس من المستحيل، من منظور الشيم المتعارف عليها آنذاك لدى نبلاء “أولاد امبارك”، أن يقسو أمير على سيدة، وبالأحرى أن يغتالها، خاصة إذا كانت هذه الأخيرة تنتمي إلى قبيلة ذات شوكة ومهابة وفي بيت قال “بول مرتي” بخصوص أهله : “على الرغم أنهم زوايا، إلا أنهم محاربون من الطراز الأول عند اللزوم”.
فور الاستواء على سطح “الخشم”، نشعر بدهشة كبيرة أمام الضريح الحجري الذي يبدو أضخم من المتوقع؛ وبمجرد إلقاء نظرة أفقية، تبدأ رحلة تحليق افتراضي فوق ما شكل يوما “الحوظ السعيد” الذي رسمه “الكفيه” من خلال لوحاته الأدبية البديعة…
لم أقتنع يوما برواية الاغتيال، لأنها لا تصمد أمام امتحان النسق الثقافي والاجتماعي وقتها، وتصطدم، كما لاحظنا، رأسا بالمعطيات المادية، فما حقيقة الأمر إذا؟
للإجابة على هذا السؤال، سأورد فيما يلي ما سمعته مباشرة من بعض الشيوخ في مدينة النعمه وقرية “انواودار” وقرية “ازريبه” وأخيرا “انواكشوط”، لأترك للقارئ(ة) حرية تصور الإجابة التي تناسبه (ا).
١- النعمه : في نهاية ثمانينات القرن الماضي، اتصلت بشخصيات تقليدية في هذه المدينة العريقة، وسألتهم عن ظروف وفاة “البهوه” رحمها الله تعالى؛ فأجابوني تقريبا جميعا بأنها تم اغتيالها على يد “الكفيه” عفا الله عنه. كنت كلما سألت أحد محدثيّ عن سبب الاغتيال، اعتذر عن عدم معرفة التفاصيل، باستثناء شيخ واحد شرح لي : “اشتعلت يومها حرب ضروس بين “أولاد امبارك” و”أولاد بله” وسمع “الكفيه” بأن طفلا (يُخشى أن يهم يوما بالانتقام) تم إيواؤه خفية من طرف “البهوه” ؛ فزار “الكفيه” الحي المذكور، وكان لدى “البهوه” ابن في سن هذا الطفل، فطلب منها “الكفيه” تحديد أيهما “البلاوي”، فرفضت ذلك. وخوفا من أن يخطئ في هوية الطفل، وانتقاما من “البهوه” لرفضها التفريق بين ابنها وابن أخيها، قرر “الكفيه” قتلها هي!”.
٢-“انواودار” : في نفس الفترة، التقيت مرتين أو ثلاثة بجماعات من شيوخ هذه القرية المضيافة التابعة لبلدية “ولاته”، وأكدوا لي ما ذهب إليه نظراؤهم في عاصمة الولاية بخصوص حادث الاغتيال ؛ أما عن ظروفه، فلم أوفق في الحصول على أية تفاصيل.
٣- “ازريبه” : حدثني شيوخ هذه القرية التابعة لبلدية “بنگو”، أن حادث الاغتيال غير صحيح البتة، وأن جدة بعضهم “البهوه” امرأة “تائبة”، حباها الله تعالى بصيت وبركة كبيرين ؛ وتوفيت رحمها الله تعالى في فصل غزير الأمطار، فكان كلما حاول الناس جهر قبرها، غمرته المياه، فقرر أبناء “الأميرة” دفنها فوق جبل (“الخشم” الذي أصبح فيما بعد يحمل اسمها). ونظرا لكثرة السواعد إبان مراسيم الدفن، لم تشكل التعقيدات التوبوغرافية أية عقبة تذكر أمام حفر القبر وجلب الحجارة وحمل الجنازة.
٤- انواكشوط: في إطار اهتمامي بهذا اللغز، حدثني شيخ من أهل “الحوظ” كان مقيما بنواكشوط، فأكد فرضية الاغتيال وأضاف : “زار “الكفيه” الحي الذي كانت تقطنه “البهوه”، فحدثت مشادات بين الإثنين، تطرقت إلى مسائل دينية أزعجت “الأمير”، فوجه سلاحه صوبها وأطلق النار ليرديها قتيلة على الفور”.