إلى الرعيل الأول من العلماء الزهاد، الذين لا تطبيهم زهرة الدنيا ولا يغيرهم عما ألفوا من مجانفة عن موائد السلاطين، وزخارف المدن، وزخم السياسة انتمى الشيخ يحيى بن الشيخ سيدي المختار بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا.
وقد انفتحت أمام الرجل أكثر من بوابة ليكون من أكثر أهل عصره تأثيرا في السياسة والمجتمع، خصوصا أنه ولد وعاش في عصر تقلبات سياسية متعددة بدءا من ترسخ الاستعمار إلى الاستقلال، لكنه اختط طريقا آخر، وألقى عصا التسيار بين كتبه وألواحه، وبين إخباته وتربيته، فكان أبرز مثال على تربية شيخه الشيخ عبد الله ولد داداه وعلى إرثه ومدرسته، بل ووارث تلك المدرسة لعقود.
رجل العلم وحفيد العلماء
ولد الشيخ يحيى في العام 1936، بمنطقة تسمى الربيع، في المحتد العالي بين البيت الأبييري، لأبوين كريمين هما الشيخ سيدي المختار بن الشيخ سيديا، وفاطمة بنت محمود بن عبدي بن الرباني، التي لم تكحل نظرها كثيرا برؤية طفلها الجميل الذي سيملأ الدنيا بعدها ويشغل الناس، حيث توفيت بعد أسبوعين من ميلاد "يحيى" الذي نشأ في كنف ورعاية والده وأم إخوته الكبار السيدة المصونة محجوبة بنت أشفغنا الله.
ولم تبعد رحلة الرجل في طلب ولم يكثر شيوخه، فقد درس القرآن الكريم على العالم الشهير إبراهيم بن محمد المصطفى ولد ابن ثم انتقل بعد ذلك إلى الشيخ عبدالله بن داداه، وهنالك حط رحاله، عدة عقود، حتى درس عليه كل المتون المدرسة في المحظرة الموريتانية، كما أخذ عليه أوراد التصوف، وكان أحد أقمار مدرسته، بل كان يخلفه في بعض الأحيان في تدريس بعض طلابها.
بعد وفاة الشيخ عبد الله ولد داداه سنة 1975، انتقلت المحظرة العلمية والقرآنية إلى الشيخ يحيى، وبشكل خاص فقد انتقل معه كل التلاميذ التي كانوا ينتظرون الإجازة من الشيخ عبد الله بن داداه رحمهم الله، واستمرت المحظرة على الأمر عقودا متعددة.
وكان برنامجه اليومي يتضمن سماع القرآن من طلاب الإجازة، وتصحيح الألواح، وكذا تدريس المتون المحظرية المتعددة.
حيث أقام فترة طويلة عند بئر المبروك شمالي أبي تلميت ثم انتقل منها إلى الواسطه التي أحياها وأقام فيها مع طلابه فترة، ثم عاد منها للمبروك، ثم انتقل منه إلى تيدملين الشمالية حيث أحياها واستقرت بها محظرته حتى رحلته الأخيرة للعلاج في نواكشوط حيث توفي في 11 مارس 2020 ودفن في مقبرة تندوجة 70 كلم، شمالي بوتلميت حيث يوجد ضريح جده الشيخ سيديا.
وقد درست على الشيخ يحيى آجيال متعددة من علماء القرآن وطلاب المعارف الشرعية، وظل مدرسته التي تركز على القرآن قبلة الراغبين في أخذ القرآن غضا طريا وتثبيته وترسيخه، رغم صعوبة الظروف التي كانت تحيط بها من بعد عن المدن واستقرار في البادية، إلا أن أفئدة الطلاب كانت تهوي إليه من كل حدب وصوب.
ومن أشهر الذين تخرجوا من محظرة الشيخ يحيى:
- الشيخ سيديا بن الحكومة رحمه الله.
الشيخ الفخامة، فقد درس عليه مباشرة أوبواسطة أخيه الشيخ سيديا رحمه الله.
الشيخ محمد سيديا بن أجدود النووي
الشيخ أحمد محمود بن ددود
المرحوم أحمدو ولد ناصر الدين
لمرابط ولد أحمد باب القلاوي
عبد الله ولد اجدود الملقب العباد
ومن أشهر المحاظر التي أنشأها تلاميذه من بعده أو تلاميذهم( والنظم ضاق ببعضهم فحذفته ولربما حذف الذي لم يجهل).
- محظرته القائمة في تيدملين الشمالية: والتي يشرف عليها أبناؤهمحظرة تندوجه وقد وضع حجرها الأساس تلميذه وخليفته الشيخ سيدي بن الحكومة، ويشرف عليها ويدرس فيها الشيخ عبد الله بن الشيخ سيدي بن الحكومة.
- محظرة البلد الأمين: وهي محظرة الفخامة بن الشيخ سيديا
- محظرة بئر الخير: وقد أسسها تلميذه محمد سيديا بن اجدود الشهير بالنووي.
- محظرة تيدملين الغربية: ويشرف عليها محمد بن إسماعيل بن الشيخ سيديا
- محظرة حمود ولد الصبار قرب اديني..
- محظرة محمد ولد المرحوم ولد القاظي في تنيرك
- محظرة تندغيدسات التي يشرف عليها الشيخ أحمدفال بن سيدي أحمد
ويمكن اعتبارها من لمحاظر المتفرعة عن محظرة الشيخ يحيى
في الجانب القرآني، فقد أعطت هذه المحظرة السند في قراءة نافع لعشرات الطلاب، والفضل في ذلك لله ثم للشيخ يحيى رحمه الله تعالى وجزاه خيرا..
- محظرة النعيم التي يشرف عليها يعقوب ولد ابيه،
مثل تندغيدسات يمكن اعتبارها من لمحاظر المتفرعة عن محظرة الشيخ يحيى
في الجانب القرآني، فقد أعطيت هذه المحظر السند في قراءة نافع لعشرات الطلاب، والفضل في ذلك لله ثم للشيخ يحيى رحمه الله تعالى وجزاه خيرا..
- محظرة طيبة لشيخها الشيخ الناجحين (عبد الله ولد الخليل ولد الشيخ سيديا)
كذلك من امتداد محظرة الشيخ يحيى:
- الشيخ محمد يحيى ولد التلاميد الذي يقيم في الفرات، يدرس العلوم ويجيز في القرءان الكريم.
- الشيخ الداه ولد بيداه شيخ محظرة القرءان العتيقة في قرية الفرات.
- الشيخ احمد ولد الخضر صاحب محظرة ميمون التمارد التابعة لبلدية تنغدج.
أما الذين أجازهم الشيخ يحيى في القرآن الكريم أو درسوا عليه في فترات متعددة، فخلق كثير لا يمكن إحصاؤه.
مدرسة الزهد وهيبة الإخبات
كان الشيخ يحيى بن الشيخ سيديا رمزا للزهد ومدرسة في التربية الإيمانية العميقة، وكان مهيبا دينا تذكر بالله رؤيته وحاله قبل مقاله.
لايسأل الناس ولا يقبل أعطيات التلاميذ خوفا أن تكون عوضا عن تعليمهم الكتاب العزيز.
كان الشيخ يحيى ذا عزيمة شديدة على العبادة، واستمرار عليها، مثله في ذلك الحاج ولد فحفو و أحمدو ولد محمذفال، ويذكر عنه تلامذته أحوالا عظيمة من القيام وصيام الهواجر والدعوة والتربية والتعليم، إضافة إلى الكرم الحاتمي والزهد فيما عند الناس، رغم سعي الحكومات لمده بالمال و الإهداء له، إلا أنه كان يرفض ذلك رفضا لا مساومة فيه.
زاره مرة وفد من دولة خليجية وقد أحضروا معهم بعض الأعطيات الجزيلة، فرد الشيخ يحيا العير وما حملت والبعير لصاحبه، ومع إصرارالوفد قال لهم يحيى في أدب " طلبة المحظرة هناك، ومن أراد أن يكرمهم فله ذلك، وأنا فلا احتاج لشيء، فقال له أحدهم، كأن أحدا تقدم لنا بطلب دعم هذه المحظرة فقال له الشيخ يحيى، " مان عالم ابذاك ؤاتعد اعلي.. " أنا لا أسأل إلا ربي..".وقد عرف الشيخ بكثرة الدعاء و بدوام التسبيح، حيث خلد بعض مناجاته و أدعيته وابتهالاته في قصائد منها رائيته الشهيرة:
أنت الرؤوفُ بنا تُطاعُ فتشكُر * كرَمًا وتُعصَى يا حليمُ فتَغفِر
وتُنيلُ مَن يرجوك فوق مَرامِه * وظنونِه بمراتبٍ لا تُحصَر
إذ لا يكادُ الخلقُ يُحصي كلُّه * بالعدِّ فضلَك فالمواهبُ أكثَر
يا اللهُ يا رحمنُ يا جمَّ العطَا * يا ربِّ يا غفارُ يا متكبر
واجعل لنا بك عن سَوائِك مَشْغلا * وعلى الذي ترضَى نَدوم ونصبِر
وهبِ المحبةَ والسعادةَ والهدى * ورِضًا يدومُ لنا وما نتخيَّر
وهبِ الأمانَ مَدى الزمانِ مِن الذي * يوذي العبادَ وما يَضير ويَذْعُر
واغْفِر ذنوبا جئتُ مُعترِفا بها * يا من يُّثيبُ وللذنوب يُكفِّر
واجعل بها علمَ الشريعةِ دائما * قرآنا أو خبرا وفقها يُنشر
ومن الخلاف لأهلها كن حافظا * وعلى الذي ترضى الوِفاقُ يُقدَر
واجعل بفضلك كلَّ فردٍ منهمُ * لإلههِ أبدا كثيرا يُذكر
مُستغفرا ومُهلِّلا ومصليا * يتلو كتابَ إلههِ يَتدبر
مُتبتِّلا دهرا إليه ومُخبتا * ومراقبا ومشاهدا يتفكَّر
أسقيتَه كأسَ الفَنا فكأنه * بسوى القديمِ إلهِه لا يَشعُر
مُتأدِّبا علَما يُرى بزمانه * يَهدِي بإذن إلهَه مَن يَّكثُر
يقفُون طرًّا نهجَ أحمدَ خالِصا * عذبَ الزُّلالِ ولا غُبارَ يُكدِّر
صلى عليه مُسلِّما رَبُّ الوَرى * مع آله ومَنِ اقتفى ما يُوثَر
ما سَحَّ فضلُ اللهِ رَبِّيَ إذ دعا * عبدٌ ففازَ بما يَوَدُّ ويُنصَر.
طوى الشيخ يحيى بن الشيخ سيديا سفر الحياة في العام 2020 عن عمر ناهز اثنين وثمانين سنة، وقد رثاه العلماء والشعراء، وبكت لفراقه الطلبة والعلماء والجيران والأقارب والأباعد..
رحل الشيخ يحيى، لكن مآثره لم ترحل ولم تسرق وذكره لم يرفع..
رحل الإمام الشيخ طود علومها.. مصباح غيهبها المنير فيالها
يحيى الذي أخذ الكتاب بقوة.. و حوى المكارم و استتم خلالها..
رحم الله الشيخ يحيى برحمته الواسعة..