عمليتان فاجأتا المجتمع الموريتاني وهزتا مشاعره العميقة فيما يخص معتقداته واركانها : حرق الكتب الدينية المرجعية في البلد والمقال المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. بطلا العمليتين تعرضا لنقمة شعبية غير مسبوقة وللمحاكم والسجن. غير أنهما تجاوزا المحن لكن بدرجات من النجاح متفاوتة.. تمخضت عنها نتائج متباينة جدا من حيث أثر كل من التصرفين على صاحبه وأمانه ومستقبله.
بيرام ولد الداه ولد اعبيد لم يتراجع عن موقفه ولم يعتذر عن ما أقدم عليه.. بل على العكس تمادى وأصر على "ذنبه" متغاضيا عن أثره على الرأي العام الوطني. فبدلا من الإنشغال كثيرا بهذا الجانب المحلي فإنه لما يتناوله يبرر فعلته بضرورة "تنقية الإسلام من كتب النخاسة وشوائبها الإجرامية التي تكرس العبودية"، حسب قوله. وركز اهتمامه على التوظيف السياسي " للمحرقة"- كما يسميها هو- وتبعاتها بفعالية في أوساط أجنبية، غربية واعلامية، مؤثرة. مما أعطاه مصداقية في الغرب أضفت عليه مشروعية عالمية زادت من صيته وتحسين صورته في الداخل. وبلغ وزنه الشعبي وحنكته في المناورات السياسية والإعلامية حدا مكن من انتخابه في البرلمان ومن احتلاله المرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فأصبح زعيما سياسيا لا يمكن تجاهله - يحسب له حسابه في المشهد السياسي الوطني.
ويلاحظ الآن تغير في خطابه وتعاطيه مع العمل السياسي: يبدي شيئا فشيئا سلوكا مرنا يحاول من ورائه الابتعاد نوعا ما عن الخطاب الراديكالي والنهج المتطرف، والتحلي بمظهر زعيم محترم جدير بتحمل مسؤوليات رجل الدولة.. بدلا من أن تظل صورته منوطة بالمعارض الطفيلي والسطحي الذي يتفوه بعبارات استفزازية تثير سخرية المتلقي وتنفره في حالات كثيرة.
أما ولد امخيطير فمن المستبعد في الظروف الراهنة -وحتي بعدها بفترة طويلة- أن ينال داخل البلد نفس القدر من الحظ السعيد الذي يجعل منه زعيما سياسيا أو شخصية وطنية بحجم بيرام.. بل إن إمكانية عيشه داخل الوطن موضع شك وربما تحيط بها مخاطر تؤرقه.
إساءته إلى رسول الله صلى الله عليه أشد وأعظم بكثير عند المسلمين من حرق كتب ألفها أفراد.."يؤخذ منهم ويرد"، على حد تعبير بعض الناشطين في مجال الإسلام السياسي. ولذلك فإن وقع تدوينته على الناس كان صادما بشكل مذهل.. والتعامل مع ملفه لم يكن بالأمر اليسير: لا قضائيا، ولا سياسيا.
توبته التي أعلنها فورا- وكررها مرارا- لم تشفع له في البداية لما صدر حكم قضائي أول بإعدامه. وحين اصدر القضاء في مرحلة ثانية حكما نهائيا آخر يقضي بسجنه لمدة زمنية كان قد أكملها في السجن عند النطق بالحكم، تحرك الشارع بشكل فوضوي ومخيف رفضا لإطلاق سراحه، ومطالبا بإعدام المعني بسرعة، وبلا شرط ولا قيد. وبُثت على نطاق واسع عبر شبكات التواصل الاجتماعي نداءات تدعو إلى اغتياله وإلى تحدي النظام والخروج عليه إن هو اقدم على اطلاق سراحه. مما دفع بالسلطة التنفيذية إلى تعليق تنفيذ قرار القضاء، وإلى إبقاء ولد امخيطير محجوزا حتى تجد مخرجا يؤمنه ويقيه ويقي البلد بأس الشارع ونقمته.
واليوم، وبعد فتوى قدمها فريق متميز شمل اربعين فردا من ابرز علماء الدين الإسلامي الموريتانيين، استشارهم الرئيس محمد ولد عبد العزيز في القضية، فإن الدولة توصلت إلى حل استبشر به جل الزعامات الوطنية الوازنة : السياسية[i] والروحية[ii] والأدبية[iii]، لأنه "يطوي الملف نهائيا" حسب تعليلهم. ومع ذلك فإن النقاش والجدل حول الموضوع لم ولن ينتهيا في الأمد القريب.
ويسمح الحل التوافقي المذكور، بين الدولة و الفقهاء، باستعادة ولد امخيطير لحريته وفقا للقانون والشرع.. ويحول دون تهييج الشارع وإثارة الفوضى في البلد، رغم أن الخلافات حول القضية عميقة وضجيجها لم ولن ينقطع كما اسلفنا. الأمر الذي يتجسد بالنسبة للمعني في تعرضه باستمرار لضعوط شديدة من الصعب عليه أن يزاول معها حياته ونشاطه داخل الوطن بشكل طبيعي كما كان يفعل قبل نشر مقاله المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يبقى السؤال مطروحا حول مصيره :
هل سيبقى ولد امخيطير مقيما في موريتانيا؟ وكيف سيعسيش فيها بأمان، مطمئنا، رغم الصعاب والضغوط الكثيرة والمؤلمة، السياسية والاجتماعية والنفسية، التي يتعرض لها؟
أم أنه لن يصبر على هذا الوضع الشاق وسيهجر البلاد على غرار ما فعله والده، حيث سيكون بإمكانه مزاولة نشاطات، سياسية أو غيرها، تعيد له الإعتبار.. وذلك مثلا بالتعاون مع منظمات وهيئات علمانية، حساسة ومهتمة بملفه ونوعه من القضايا ذات العلاقة المثيرة بالدين؟
وفي حالة اختياره الغربة والتعامل مع الحركات الحقوقية الغربية وغيرها، كما نتوقعه، فعليه أن يكون حذرا من الوقوع في فخ دعاة الإسلاموفوبيا الذين يتصرفون وينشطون تحت راية "العلمانية وحقوق الإنسان".
البخاري محمد مؤمل (اليعقولي)