في العام ٢٠١٢ بعيد إصابة رئيسنا السابق محمد ولد عبد العزيز فيما يعرف بحادثة اطويله، وفي خضم فورة الشائعات المتعلقة بالوضع الصحي للرئيس وقتها، وحديث البعض عن احتمال عجزه عن مواصلة العمل، كنت في مكتب أحد المسؤولين السامين برتبة وزير -وإن كان بتسمية وظيفية أخرى- لإجراء مقابلة معه في إطار عمل تلفزيوني يتعلق بقطاعه؛ ليدلف فجأة أحد أعضاء الحكومة حينها والذي بدا من خلال طريقة الدخول المفاجئ وعدم التحفظ أنه صديق حميم للمعني... بعد إلقاء التحية مازحه قائلا: "انت اليوم اتبان عندك التلفزه..." قبل أن يعتدل في جلسته ويرتب وضعية ربطة عنقه ويخاطب صديقه بجدية أكثر: "صاحبي ما ننصحك بالظهور فالتفزه ذ الزمن. لمور متخرمزه والراجل ميت سريريا ؤواعر اعليه اتل يرجع. ألا حد ايحاني إلين يعرف الدنيه امنين صاده" ...
انتابتني موجة استغراب وحيرة من تصريح الوزير الذي ألقاه دون تحفظ من ضيوف صديقه.. وتخيلت لو أن الرئيس باغته في تلك اللحظة ماذا ستكون ردة فعله؟!.. قبل أن انتبه على صوت "المسؤول" يعتذر لي عن عدم إمكانية التسجيل الآن ويضرب لي موعدا في اليوم الموالي.. وكأني بلسان حاله يقول: (أمركي لرض سابك تسمعي مبيقه اخرى!!)
... بعد هذا الموقف بأسبوعين تقريبا، كنت في مطار نواكشوط في نقل حي لوقائع وصول رئيس الجمهورية من رحلته الاستشفائية بباريس، وبحكم عملي كنت في موقع قريب جدا من قاعة الشرف حيث يوجد أعضاء الحكومة وكبار الشخصيات المستقبِلَة، قبل أن يؤذن مؤذن من التشريفات أن هلموا لأخذ مواقعكم عند البساط الأحمر فالطائرة الرئاسية دخلت الأجواء... خرج القوم نحو المكان، وإذا بصاحبنا "الوزير" يدفع زملاءه بقوة ليكون أول المتسمرين عند البساط! مع العلم أن مكان الكل معروف تلقائيا حسب الترتيب لبروتوكولي ولا داعي للعجلة! أحسست برغبة في متابعة تصرفاته وهو الذي مازال صدى تصريحه الأخير يتردد في أذُنَيَّ...
عند المصافحة انحنى"معاليه" للرئيس حتى كادت جبهته تلامس بطنه! مع ابتسامة كادت تصل معها فتحة فمه لحلمتي أذنيه! وبعدها بأيام قليلة كان يتغنى بأمجاده في سلسلة نشاطات "استحدثها" قطاعه على عجل لتكون فرصته "للظهور في التلفزة" بعد أن "عرف الدنْيَ امنين صاده!!" وبعد رجوع "الميت سريريا" على حد وصفه !! وطبعا لم أكن لأتفاجأ من مواقفه اللاحقة الأخرى في سياقات مماثلة كان آخرها قبل أيام!!
قصة صاحب المعالي هذه تذكرتها وأنا أرى حجم التلون والحربائية التي تطبع سلوك البعض وتصرفاته في التعاطي مع واقعنا السياسي الجديد، فليس عيبا لا، بل مفخرة أن نلتحق جميعا بركب إجماع وطني، أرسى دعائمه فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، ونزل بهجة واطمئنانا على قلوب الجميع، وما يوم إحياء ذكرى الاستقلال وما جسدت من توجه صادق للَمِّ الشمل وتوحيد الصف منا ببعيد... ولسنا بالملومين إن عبرنا عن استعدادنا للمساهمة في معركة البناء الوطني بكل ما أوتينا من قوة، كل من موقعه وحسب مؤهلاته... لكن العيب يكمن في السفور من رداء أخلاقي هو أهم ما كنا نراهن عليه كمجتمع يتنفس الفضيلة ويتشبع بالقيم حتى النخاع...
العيب والمذمة أن نسمح للبعض بمحاولة إقناعنا أن لا سبيل إلى كسب ود الحاضر إلا بالتنكر لإيجابيات الماضي الذي عرف تعاقب أنظمة عديدة على إدارة شؤون البلد، والتي جاء خطاب الترشح لفخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني منصفا لها بالجملة، حين أكد على أن الجميع قدم ما يستطيع وما خولته الظروف خدمة لهذا الوطن، وليس يلام المرء في مبلغ الجهد.
العيب هو أن نجاري بعض ساستنا في تعريفهم للسياسة بأنها فن لا يرتقي صعيده بنجاح إلا من أوتي حظا من الكذب والنفاق والتملق والتلون والتنكر عند الاقتضاء وبيع المواقف المعلبة عند الطلب بل والتبرع بها بدون طلب ولا حاجة أحيانا!!
من هنا يطيب لي أن أطرق بابكم سيادة الرئيس بأمنيتي، المتمثلة في سرعة تطبيق الجانب القيَّمي من برنامج "تعهداتي"، وذلك بسن إجراءات تضعنا على سكة النبل السياسي، من خلال خلق طبقة سياسية نظيفة وذات مبادئ، تبني مواقفها على المصالح الوطنية لا غير، وتتخذ من ديننا وقيمنا الأصيلة مرجعا ومرجعية، وتتسامى عن السفاسف والحضيض إلى أفق الإنجاز والمصالحة والبناء. وما أظن الأمر عصيا في بلد يعج بالوطنيبن الصادقين، المؤمنين بأن النهج السياسي السليم هو ذاك الذي زينت جوانبه ببقية أخلاق وشيء من التقوى.