الإنسانية بين الإيمان والعدميات... إن البشر بغض النظر عن كل الفوارق الطبيعية والاجتماعية والفكرية بينهم- إخوة في الإنسانية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا). وفعلاً فإن مكانة الإنسان في ديانات العائلة الإبراهيمية ظلت محفوظة فهو القابل للإيمان بالغيب، والحامل بالفطرة للقيم العُليا، رغم النظريات التي حاولت في العصور الحديثة أن تُلغي الفرق بين الإنسان والحيوان مع فرويد (Freud) -والذي يسميه بول ريكور (Paul Ricœur) أستاذ الشك- في تحليله النفسي للسلوكيات، وداروين (Darwin) في تفسيره لأصول الإنسان. ورغم المحاججة العلمية الوجيهة ضد تلك الآراء من طرف فلاسفة آخرين -والتي لا مجال لذكرها هنا- فالذي نريد أن نقول: إنّ الديانات ظلت متمسكة بالأصل الإنساني للإنسان كمخلوقٍ متفرد، خلق بعناية الله العلي الأعلى، الذي هو المسبِّب، والذي بدأ خلق الكون، بعد أن لم يكن، وأن الكون لا يمكن أن يقفز إلى الوجود من العدم المحض إلا بقدرة خالق، أزلي قيوم، خلق المادة والزمان، فهو أعلى من المكان والزمان. فالعدم لا ينتج الوجود – والجهل لا ينتج العلم – والفوضى لا تخلق النظام. فالكون بديع عظيم مصمم، له خالق مبدع مريد. إذا لم يكن الكون أزلياً في ماضيه كما أثبته آرفيد بورد (Arvid Borde) وآلان غوث (Alan Guth) والكسندر فيلنكين (Alexander Vilenkin)سنة 2003م, فلا بد له من مُوجِدٍ، وإن من يدعي عكس ذلك لم يستطع إثبات دعواه، وقصارى الأمر أنه لم يجد. وعدم الوجدان ليس دليلا على عدم الوجود، وعدم العلم ليس دليلا على علم العدم. إن العدم الذي معناه اللاوجود الخالي من القوى والخصائص والإمكانات لا يمكن أن ينشئ الكون بدون مكون. فديانات العائلة الإبراهيمة تقوم على التفسير الغائي للكون، وليس على التفسير الآلي، والإنسان في صلب هذه الغاية . فهو مكرم يرجع إلى أصل واحد مخاطب من قبل الباري جل وعلا مسخر له الكون. إن فلسفة التعليل عند توما الإكويني ( (Tommaso d’Aquino) التي تقوم على أن ممكن الوجود مفتقر إلى واجب الوجود، هي نفسها عند ابن سينا والفارابي وموسى بن ميمون، وهي قريبة مما عند بعض قدماء الفلاسفة، ورغم ما تعرضت له تلك البراهين من شغب ونقد فما زالت حسب رأينا صامدة، وبخاصة أنها مؤيِّدةٌ لما جاءت به الرسالات السماوية. الشيخ عبدالله بن بيه (مخاطبًا القافلة الأمركية للسلام متعددة الأديان )اليهودية والمسيحية والإسلام.