يمر الوطن العربي، حكامات وشعوبا، بمنعطف استثنائي في كل تاريخه الحديث، منذ ما بعد التأسيس الهيكلي والاستقلال السياسي والاقتصادي. وإن من أبرز سمات هذا التحول البنيوي الحاصل هو انحسار الخلفيات وضعف الدور للأيديولوجيات التي ولدت توأما لنشأة الحركات التحررية ضد الاستعمار ونضالها وكفاحها في دائرة المطالبة بالاستقلال التام عنه، وأيضا سعيها إلى الانعتاق داخليا من سلطة الرجعية وأغلال الظلامية وكوابح الخرافة وتخدير الأسطورية الرعناء.
ولما انتفض العالم الغربي من تحت ركام الحرب العالمية الثانية ليعيد “سيرته الأولى” التي حاد عنها ودفع الثمن غاليا من ناحية، والعالم الثالث من قيود الاستعمار نتيجة الكفاح وبلوغ غاية التحرر ليسلك فجاج التحضر المشتهى بالعلم والبناء من جهة أخرى، انقسم الوطن العربي إلى ثلاث فئات:
ـ انشغلت الأولى متمثلة في دول الخليج بفضل عائدات البترول الذي اكتشفته أمريكا والدول الغربية والآسيوية، وما أحدثته من طفرة كبيرة، في ملذات ورغد الحياة الباذخة ورفاهها الذي شمل جميع أوجهها،
ـ واتجهت فئة الدول الثانية ذات النزعات الايديولوجيات الثورية والقومية وذات الطابع الديني التسلطي أو التكفيري، في الوقت الذي تخلت فيه عن النهج الأيديولوجي غالبية دول المعمورة من حول الدول العربية فيما حولها قسم من هذه البلدان إلى أداة للانضباط والبناء. وهي الأيديولوجيات التي سرعان ما زجت بٍهم في أتون الصراعات العقدية العقيمة حول الجزئيات والمفاهيم وترتيب الشعارات في أنساقها النهائية.
ـ وبقيت وحدها دول الاطراف الضعيفة والفقيرة والأخرى المحكومة بإملاءات ومناهج مختلفة، من العالم العربي، مقسمة بين:
ـ نفوذ وتأثير دول الخليج بمالها تٌرغبها أو تُرهبا، وتُساعدها أو تحرمها، أو تقربها رضى أو تعاقبها سخطا،
ـ والدول المحسوبة عند حُكامها على الثورية والتقدمية، تُوزع صراعاتها بين الدول الفقيرة التي تحارب بعضها للتأثير على طبقاتها الحاكمة والمتعلمة والسياسية.
وتبقى الحقيقة “المفارقة” أن الفكرة والنية والإرادة إلى التطبيع قد مهدت كلها، ومنذ أمد، لحصول “فعل” التطبيع على أرض الواقع ضربا عرض الحائط بكل العهود والالتزامات وتحللا منها، عند دول الجوار المحاذية للكيان الصهيوني، مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وفي عقول جزء من طبقة أهل لبنان السياسية، مُضفين جميعُهم بالاعتراف المعلن صبغةَ “الشرعية الإقليمية” على الكيان الصهيوني باعتباره دولة إسرائيل على أرض فلسطين العربية.
وتكمن المفارقة العجيبة في شأن التطبيع الجاري بوتيرة متسارعة ـ تريد يناير من العام المطل بمخالبه التي ستنتزع ساكن البيت الأبيض وعراب التطبيع من بين جدرانه ـ في كونه يجوز لبعض الدول ويمنع على البعض على أساس حسابات يصعب تأويلها وفهم وإدراك تبريراتها أو قبولها. ويزداد في هذه الأيام الانقسام حدة بين:
ـ المؤيدين لأصحاب التطبيع الذين ذهب بهم إلى حد الزيارات المتبادلة والسفارات والقنصليات العاملة وتوقيع الصفقات التجارية وتسيير مختلف البعثات التبادلية العلمية والثقافية والفنية والسياحية،
ـ والمناهضين لدخول الدول العربية الأخرى في عملية التطبيع الذي تتسع دائرته بسرعة وقد امتدت إلى الدول الإسلامية التي كانت رافضة له تضامنا مع الشعب الفلسطيني ومناصرة للقضية العادلة.
ولكن أمر التطبيع بات في نهاية المطاف من شأن كل دولة لوحدها بحسب تقديراتها وحساباتها لأوضاعها السياسية والأمنية والجيوستراتيجية ومصالحها الاقتصادية، وذلك على إثر التحولات الكبيرة التي حصلت بالتراكم منذ التطبيع المصري الإسرائيلي بموجب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي وقعت في واشنطن بالولايات المتحدة يوم 26 مارس 1979 في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 التي وقَّع عليها الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن، وشهدها رئيس الولايات المتحدة جيمي كارتر.
فهلا يسقط ويضيع التطبيع حق الشعب الفلسطيني في الحصول على دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف؟
كل الدول المطبعة قالت بحرصها على القضية الفلسطينية والاستمرار في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني والدفاع عنه حتى نيل حقوقه وقيام دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وأن التطبيع مطية مواتية إلى ذلك سيفرضه بلغة تشابك المصالح والحسابات والإملاءات الجديدة في أجواء متصالحة لضرورات الاستمرار.