
خرجنا للتوّ من موسم الحج، هذا الموسم الرباني الجليل، الذي تنكشف فيه مقاصد العبودية الخالصة لله وحده، وتتعالى فيه الأصوات بالتكبير والتهليل والتجرّد من الدنيا وأدرانها...
لكن ما أقبح أن يُجاور هذه الشعيرة العظيمة مظاهرُ دنيوية فاسدة تخدش معناها، وتطعن في جوهرها، وتفرغها من حقيقتها التعبدية!
ومن أفظع هذه المظاهر: تحمُّل الدولة لتكاليف الحج عن أشخاص لا يدخلون ضمن التفويج الرسمي، ولا يزاولون مهامًا تنظيمية أو دينية في خدمة الحجيج.
وإنّ هذا العمل المنكَر ليس فقط خللاً إداريًا، بل فضيحة شرعية وأخلاقية، ووجهٌ من وجوه الغلول في المال العام، بل هو تدين زائف يستر به البعض أطماعهم، والدين منه براء.
لقد بات من المألوف أن تُسجَّل بعثات الحج الرسمية وفي طياتها:
برلمانيون
رؤساء أحزاب
شيوخ قبائل
أصحاب رتب عسكرية
شخصيات مرجعية
فقهاء لا مهمة لهم في الحج
أقارب ومصاهرون وأصهار وأبناء وأصهار المسؤولين، ممن يُرفَع عنهم كلفة الحج بلا مسوّغ شرعي ولا خدمة عامة
وهؤلاء جميعًا – مهما سمت مناصبهم أو قَرُبَت أنسابهم – لا يُستحق لهم أن يُحج عنهم من مال الأمة، ما لم يكونوا معينين رسميًا في خدمة حجاج بيت الله.
فالعبادة في الإسلام مسؤولية فردية، مشروطة بالاستطاعة، ومن لا يملك النفقة فلا يجب عليه الحج أصلًا، ولا يجوز أن يُحمَّل ذلك على رقاب الفقراء والمساكين وأرباب العوز، ثم يُغطَّى ذلك برداء "التكريم" أو "الوجاهة" أو "القرابة".
❖ وهنا وجب التنبيه الجاد: إذا كانت هذه "المكارمات" من المال العام، فهي غلول بيِّن، وأكلٌ للسحت باسم الدين.
أما إذا كانت تُقتطَع من رسوم الحجيج ودافعي التكاليف عبر التفويج الرسمي، فالأمر أشد قبحًا وخيانةً؛ لأنه تمالؤ مع الطرف السعودي، ورفعٌ متعمَّد لفاتورة الحج على المواطن البسيط، المعلَّم أصلًا بغلاء السعر وثقل العبء.
❖ فأين يذهب هؤلاء من قوله تعالى:
“ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة”
❖ وأين يذهبون من قول النبي ﷺ:
“إن رجالًا يتخوّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة”؟
لقد صار من الضروري أن نُعيد النظر في هذه العادة المنكَرَة، التي تتكرر كل عام بلا حياء ولا مراجعة، وأن نُطهّر هذه الشعيرة العظيمة من شوائب التكسّب والتدليس واستغلال النفوذ.
وختامًا، فإن المال العام أمانة، لا يُمنَح للمقربين ولا للمكرّمين، والحج عبادة، لا يُستباح لأجله التبذير ولا الغلول.