بين التكرار والفهم: باراديغم جديد للتعليم من المحظرة إلى المدرسة

أربعاء, 09/10/2025 - 19:40

التعليم ليس سبورةً وطبشورًا، ولا شاشةً مضيئةً وتطبيقًا حديثًا، بل هو روح تُسكب في العقول والقلوب، ورحلة تبحث عن معنى الوجود. إنه باراديغم خفي يوجّه الخطى، ويصوغ العلاقة بين الحرف والمعنى، وبين الذاكرة والفهم، وبين العلم والحياة.

وفي حوار مع الدكتور اللغوي والأستاذ الجامعي الهاشمي حول الاستدعاء النشط، استشهد بما نظمه الشيخ محمدن فال ولد متالي في إيجاز بليغ لخّص به المنهج المحظري:
كتب إجازة وحفظ الرسم @قراءة تدريس أخذ العلم
ومن يقدم رتبة عن المحل @ من ذي المراتب المرام لم ينل

بهذا النظم الموجز وضع ولد متالي خارطة الطريق للطالب: أن يكتب نصه بيده، فيعرضه على شيخه ليجيزه بعد التصحيح، ثم يحفظه عن ظهر قلب، ويستمع إلى شرحه، ويكرره مرارًا حتى يتحول العلم من كلمات مكتوبة إلى ملكة راسخة. وقد أوضح الدكتور الهاشمي أن هذه المراتب ليست مجرد آليات للتلقين، بل هي باراديغم متكامل يجعل من الحفظ مدخلًا إلى الفهم، ومن التكرار جسرًا يعبر به الطالب نحو اليقين.

بهذا المعنى، لم تكن المحظرة فضاءً للترديد الجاف، بل كانت ممارسة أصيلة للاستدعاء النشط قبل أن يظهر المصطلح في كتب علم النفس التربوي. فقد كان الطالب يسترجع النص على فترات، ويعيده بلسانه وفكره، حتى يستقر في ذاكرته الطويلة، فلا يذوب مع مرور الأيام.

أما المدرسة الحديثة فقد جاءت من باراديغم مغاير: تبدأ بالسؤال والصورة، وتستخرج القاعدة، ثم تبني الخلاصة وتختم بالتمارين. إنها رؤية تجعل الفهم في المقدمة، وتفتح أبواب التفكير المنهجي، لكنها – كما يرى الدكتور – لا تمنح الاستدعاء المتدرج مكانته الكاملة، فيبقى الفهم سريع التبخر إذا لم يُستدعَ مرارًا.

ولعل السبيل الأقوم، كما أكد الهاشمي، هو أن نزاوج بين المنهجين: أن نأخذ من المدرسة وضوحها ونظامها، ونستبقي من المحظرة صرامة تكرارها وعمق شرحها. عندها يصبح التعليم بناءً مزدوجًا، يقوّي العقل بأدوات الحياة، ويغذي الروح بإدراك الوجود. فالتعليم النظامي يمنح مهارات العيش، بينما التعليم المحضري يرسخ في الإنسان ثلاث علاقات أساسية: علاقته بربه في عبادة وتوحيد، علاقته بأخيه الإنسان في أخوة وتعاون، وعلاقته بالطبيعة في اعتبار واستثمار.

لكن أطفال اليوم غرقوا في شاشات مضيئة، وألعاب جاذبة، ووسائط لا تعرف التوقف. لم يعد التكرار

وحده يغويهم، ولا الفهم العابر يكفيهم. نحن بحاجة إلى باراديغم جديد يستلهم من المحظرة وقارها، ومن المدرسة نظامها، ويضيف إليهما روح العصر الرقمي. باراديغم يجعل الاستدعاء النشط مغامرة تعليمية مشوّقة، ويحوّل المراجعة إلى تجربة ممتعة، ويعيد للعلم مكانته في الذاكرة والوجدان معًا.

فالتعليم في جوهره ليس تقنية تُتناقل من زمن إلى زمن، بل هو رحلة وجود، لا يظفر بها من يقفز على المراتب، وإنما من يسلك الطريق كما رسمه ولد متالي واستشهد به الدكتور الهاشمي: كتابة، إجازة، حفظ، شرح، ثم تكرار. وما أحوجنا اليوم إلى أن نعيد صياغة هذا الطريق في صورة جديدة، تُضيء بنور المحظرة، وتُطبع بروح المدرسة، وتُصقل بأدوات العصر، ليبقى العلم حيًّا لا يموت، والمعرفة متجذرة في الذاكرة، متوهجة في القلب.

محمد فؤاد برادة