رحلتي إلى شنقيط.. لن أنساها!/ بقلم : البخاري محمد مؤمل

اثنين, 06/03/2019 - 12:57

 

 

من المألوف أن يسافر الناس في فترات العطل إلى وجهات شتي، كثيرا ما تكون بعيدة عن أوطانهم. أما أنا، فقد عشت التجربة مستلهما طريقي من السواح الأجانب الذين ما فتئوا يجوبون بلادنا طولا وعرضا. فاخترت ـ على غرار ما يفعله جلهم ـ وجهة جيدة تليق بأول رحلة سياحية أقوم بها : مدينةشنقيط. وهكذا تضمنت الحكاية التالية المحطات البارزة في تجربة سفر لم تخلُ من مفاجئات مثيرة، بل مغامرات خطيرة وممتعة أحيانا.

الإعداد

       شرعت في الإعداد للسفر منذ ثلاثة أشهر، حيث اتفقت مع صديق لي في نواكشوط على أن نقوم بالرحلة معا على متن سيارته الخاصة. وكنا قد قررنا أن يلحق بي في أطار قبل العشرين من الشهر الجاري. وفي اليوم الموعود، وصلتني رسالة منه تنبئني بعدوله عن السفر. انتابني لبرهة من الزمن مزيج من المشاعر المربكة: خوف، حيرة، تردد… لكن سرعان ما انتفضت إرادتي من إسار معاناة الشك، فاتخذت قراري: ليكن!  سأتمسك بمشروعي مع إدخال تعديلات على الخطة تمكنني بالقيام بالرحلة بمفردي، اعتمادا على إمكانياتي الذاتية.

       كان قد تناهى إلى مسامعي عن طريق أصدقاء، موريتانيين وعسكريين فرنسيين متعاونين، أن فندقا قد شُـيِّد في شنقيط سنة 1973. وكان مخصصا لاستضافة علماء وباحثين جاؤوا – حينها – من مختلف جهات المعمورة لدراسة الظواهر العلمية المتعلقة بالكسوف الشمسي التام الذي وقع في ذلك التاريخ. وبعد ذلك بعشر سنوات، رمِّم وأضيفت إليه إصلاحات هامة لغرض تصوير فيلم « قلعة فورسقان » (FORT SAGANNE). آوى الفندق – بتلك المناسبة -نجوما صاعدة في السينما الفرنسية من بينهم: جرار دبارديي (Gérard DEPARDIEU) وصوفي مارسو (Sophie MARCEAU).

ومنذ ذلك التاريخ، أصبح هذا الفندق الفاخر مخصصا لاستقبال السائحين، في عمق الصحراء. وهو مكون من ما يربو على ثلاثين غرفة مكيفة تتغذى على الطاقة الشمسية.   نقصه الوحيد يكمن في عدم توفر مطعم  فيه  حسب ما قيل لي. لكنه  « أمربسيط  يسهل التغلب عليه باستصحاب الزاد »، طبقا لما أكد لي كل من الملازم أول تالبو (TALBOT) والمساعد كلود(CLAUDE)، الذين أقاما به في السنة الماضية بصحبة صديقيهما الموريتانيين، السالك والخير، الذين سبق أن تعرفا عليهما في حي "كنوال".

الانطلاقة...        

        في يوم 22 دجنبر، وبناءً على إرشادات المتعاونيْن الفرنسييْن، اشتريت ما يلزمني من الزاد لمدة ثمان وأربعين ساعة. وبعد يومين، سلكت طريق شنقيط على متن سيارة "لاندروفر" دفعت الأجرة المطلوبة لصاحبها الذي سيتبين لي من تصرفاته أنه على حظ طريف من الغرابة:  فلكي نقطع مسافة 120 كم التي تفصل بين مدينتي أطار وشنقيط، قضى سائقنا المتميز عشر ساعات! وعندما هَمَمْنا بركوب السيارة، برزت جرأته كناقل جَسور فيما يتعلق بما يعرف « بحساب الشحنة المفيدة »: كنا خمسة ركاب في المقصورة، في حين جعل عشرين آخرين في حوضها الخلفي محشورين بعضهم على بعض، كأنهم علب سردين! وكان مكان الراكب السادس والعشرين، القعود فوق غطاء مقدمة السيارة متربَّعا عليه بأعجوبة!… وما زلت أتذكر رباطة جأش ذلك الشاب وقدرته علي الصمود في مواجهة المخاطر ومرارة المكان، مما جعله مدعاة لتقديري!

ضياع الطريق...

لم يتوقع أحد منا أن السائق الجَسور لا يعرف الطريق. افتضح الأمر شيئا فشيئا عند ما حاد عن الدرب أكثر من مرة، حتى انتهى به المطاف إلى الضياع في مهامه الصحراء. وإن كنت اعترف أن ذلك لم يقع بكامل مسؤوليته، لأن الشاب المُقعَـدَ على مقدمة السيارة كثيرا ما شكل عارضا حال دون رؤيته للتضاريس التي يفترض أن تكون له بمثابة نقاط استدلال ومعالم يهتدي بها. هذا فضلا عن كون فتاة ـ وهي خامستنا في المقصورة ـ قد دخلت معه منذ البداية في أحاديث ودية لا تنقطع، قد تكون هي الأخرى أثرت على تركيزه، إذ كان لديها ما يكفي كيدا لشغل باله. ولا غرو في ذلك: مثله من السائقين لهم قدرة فائقة في فن الإغراء عندما يكونون ماسكين بالمقود!

وفي حوالي التاسعة مساء، لما بدأ الليل يمدّ سجوفه فارضا ظلامه على الآفاق، صار بعض الركاب يفوهون.. ويتذمرون.. وينفد صبرهم.. ويصيبهم الهم: إنهم يشكون في معرفة السائق للاتجاه الصحيح. بيد أن المعني ظل غير مبال تجاه مخاوفهم، مبديا ثقة متزايدة بالنفس، وبشكل خاص مع تواطؤ الفتاة البين ـ جارتنا في المقصورة ـ معه. لكن بعض « ركاب المقصورة المتمردين » استطاعوا كسر شوكة ذلك التواطؤ بعد نصف ساعة من السجال. هكذا أنضاف إليهم صوتا الفتاة والشاب الجاثم على مقدمة السيارة، مع صوتي طبعا. فتسببنا فى نقاش كبير شارك فيه كافة الركاب متحالفين ضد السائق. فما كان منه إلا أن خضع لإرادتنا مستسلما بعد نصف ساعة من الاحتجاج. فأوقف السيارة، ونزل منها، فتبعه في ذلك معظم الركاب.

ارتجال وظيفة الدليل...

الساعة التاسعة والنصف مساء. اعترف السائق بأنه ضل الطريق، وسأل في شيء من الارتباك « إذا ما كان من بين الركاب أحد من أبناء المنطقة ليرشدنا »، مضيفا أنه على هذا الأخير أن يتبادل المكان مع الشاب الجالس على مقدمة السيارة لكي تتاح له رؤية الميدان بشكل دقيق. قبل الشاب الاقتراح- أو وعلى الأصح الجزء المتعلق به- دون أدنى تردد.. و كانت موافقته السريعة يسيرة الفهم! 

 لكن، لم يستجب أحد لهذا العرض المشؤوم. و الأسوأ في الأمر أنه ليس فينا من هو قادر على تحديد موقعنا جغرافيا. ومن المفروغ منه أن نفكر في قضاء الليلة حيث نوجد، إذ لا أحد يقبل أن ينام في هذا المكان المجهول، في هذا العراء والبرد الشديد. وكان السائق العنيد أشد الرافضين. تبين بسرعة أنه لن يقبل بذلك أبدا. وله مبرراته: عليه أن يسلك طريق العودة باكرا، فيما بين السادسة والسابعة صباحا، حيث ينتظره زبناء آخرون.

في هذه الوضعية المتأزمة ساعدنى، كما هي العادة، تكويني كضابط. فتطوعت لمهمة الدليل رغم ما قد يكتنفها من مخاطر. وساند ترشحي حرسي معنا ورجل مسن من مدينة "وادان" سبق أن عمل جنديا تكميليا أو احتياطيا (supplétif). وكان الرجلان، كما هو حالنا نحن  "الخمسة المميزين " في المقصورة، قد دفع كل واحد منهما مبلغا متواضعا ـ 1200 أوقيه ! ـ مقابل مقعده « المريح » في مقدمة السيارة. وقد لاحظ الاثنان وجود خريطة وبوصلة معي. ورغم أننى لست متأكدا من كونهما يجيدان استعمالهما، فقد تبين لي فيما بعد أنهما منحاني ثقتهما لامتلاكي لهذه الأدوات « السحرية ».

 ورغم عدم استجابتي لتساؤلاتهم حول ”هويتي القبلية”، فقد حثا الجميع على اختياري وكان إلحاحهما شديدا، ولو أنهما لم يكونا في حاجة لذلك نظرا لغياب أي منافس. مما جعل "حملتهما الدعائية" لصالحي جد يسيرة. فتم تكليفي تقريبا بالإجماع. إن استثنينا الفتاة ـ جارتي في المقصورة ـ  التي  أظهرت القليل من الحماس تجاهي؛ ولم أعرف سببا لتحفظها- ولا أظنني سأعرفه. ولما تم حسم قضية الدليل، فرض الظلام سيادته ساعتين كان علينا أن نبقى خلالهما مكاننا في انتظار إشراق نور القمر.

استئناف الرحلة...

       في منتصف الليل، أشرق القمر وتعالى في السماء… ينشر نوره إضاءة لصالح أهل الأرض… فظهرت المعالم المتميزة في المنطقة: ها هي تتبدى شيئا فشيئا في الطبيعة من حولي… وبدأت أقرأها في الخريطة علي ضوء مصباح صغير كان بحوزتي. وبفضل معلوماتي في مجال التوبوغرافيا، وبمساعدة شيخ وادان الذى لديه بعض المعرفة بالمنطقة، قمت بإلقاء نظرة دائرية كاملة فيما حولي من معالم جغرافية.

مكنتني العملية من تحديد موقعنا، مستنتجا أن شنقيط تبعد عشرات الكيلومترات عنا، وأن الدرب الذي سلكناه منذ أن عبرنا ممر أمكجار يشكل أحد عدة دروبٍ في المنطقة، وقد تبتعد بشكل لا متناهي عن مقصدنا، فضلا عن كوننا لا ندري إلى أين تؤدي. ثم توجهت إلى السائق، يخامرني شيء من الإباء، قائلا:   "علينا أن نعود أدراجنا… وأن نسير بسرعة 30 كم للساعة ". فاستأنفنا المسير فورا. وحتى بهذه السرعة البطيئة، فإنني لم أتحمل الموقف: لم أستطع مقاومة البرد الذي يكاد يجمد وجهي وأعضائي العليا بينما الحرارة المتسربة من المحرك تضايقني سخونتها في الجزء السفلي من جسمي الملامس للسطح الفولاذي لمقدمة السيارة: فخذي، ساقي… فتعجبت مناجيا نفسي: « يا لها من مفارقة في الطقس »!  قبل أن أطلب العون. فأعارني أحد الركاب بطانية، غير أنني لم استطع الاستفادة منها. فتوقفنا ليهُبَّ صاحب الحرس لمساعدتي ـ وكم كان فعالا طيلة الرحلة! فدثرني بالبطانية وربطها بخيوط حول بدني وحرص على ترك يدي طليقتين لأمسك بهما مقدمة السيارة ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وبذا أتفادى السقوط الذي يهدنني في كل مرة تندفع فيها السيارة في منعطفات بهلوانية كثيرا ما يطيب للسائق المتهور أن يقوم بها، ليرينا رجولته وشجاعته، مثيرا سرور الفتاة وقهقهتها.

وكان علي في كل مرة، من اجل تحديد نقطة جغرافية هامة في طريقنا، أن أطلب توقفا قل أن أحصل عليه بسهولة. إلا أن، الحرسي الذي سافر مكتسيا الزي العسكري، كان يتدخل أحيانا لإرغام السائق العنيد على تنفيذ إرادتي، إلى أن أجرينا خمس توقفات على الأقل.

الوصول إلى شنقيط.. ومسألة الاستضافة...

وصلنا المدينة الشهيرة في حدود الساعة الثالثة صباحا، تغشاها هالة أسطورية في الهزيع الأخير من الليل. لا حركة فيها، لا صوت غير أزيز الرياح… لا توجد علامة بادية للحياة… توجهت إلى مركز الدرك. فأكد لي الدر كي المناوب المعلومات المتوفرة لدي بخصوص الفندق، ثم أرشدني إلى  الاتصال بالشخص المسؤول عنه للحصول على غرفة، مقترحا علي ترك أغراضي لديه ريثما أعود. فامتثلت لنصحه. ثم توجهت إلى مقر « المسؤول » وهو لا يبعد عني سوى مائتي متر. وما إن تجاوزت المدخل حتى سمعت موسيقى  وأصوات سمر اخرى تنبعث من غرفة ضعيفة الإنارة. فتموجت في ذهني أصداء الابتهاج، قائلا في نفسي: « الحمد لله! الحمد لله! هم غير نائمين! ». ها هم رجال محترمون يتسامرون في الصالون: « المسؤول »، ومسؤول سام آخر، وثلاثة أو أربعة سادة ينتمون جميعهم، في أغلب ظني، للوظيفة العمومية. القوم، كما يبدو، ينظمون سهرة ودية تتناوب فيها أمور طيبة أمست عادة بينهم : تناول حليب الإبل، لعب الأوراق، حكاية الذكريات، مزاح بعضهم بعضا، التحدث في طرائف الأمور المهنية…

وبعد ثلث ساعة أو أقل ـ أي الوقت الضروري لكي تهتم بي المجموعة بعد أن أكملت دورة سريعة من لعب الأوراق ـ وبعد تبادل التحيات المعهودة، حدثتهم عن دوافع قدومي في هذا الوقت المتأخر، مستسمحا إياهم عن الإزعاج. « المسؤول » ـ وان كان أبدى شيئا من التفهم ـ رد علي بنبرة قاطعة بأنه لا مجال للحصول على غرفة بالفندق، « لأنه لحد الآن ليس له نظام تسيير »، على حد قوله. ثم أضاف أنه بوسعي، إذا لم يكن لدي مأوى، أن أنام في بيته، قبل أن يسألني عن قبيلتي.  تهربت من الرد على سؤاله وشكرته على عرض الاستضافة ـ « وان كان مقرونا بشرط »، ملاحظا في خلد نفسي دون أن أفصح عن ذلك. ثم استأذنت منه للخروج وغادرتهم، هو، ومجموعة أصدقائه، والجو الاحتفالي الذي هم فيه يستمتعون.

... أمتعتي في زنزانة الإعتقال !

       رجعت إلى الدركي الذي استودعته أمتعتي. فاقترح علي أن أقضي الليل في سكن قائد الفرقة، وهو لا يبعد عنا أكثر من عشر خطوات. وبما أنه ليس لدي خيار آخر، قبلت العرض باغتباط واستودعته من جديد أمتعتي، فنقلها إلى داخل زنزانة الاعتقال التي لم تستعمل منذ عدة أشهر، حسب ما علمت فيما بعد. وتفسير ذلك بسيط: الحالات المخلة بالقانون نادرة في شنقيط، خلافا لما هو قائم في نواكشوط، حيث تعج مفوضيات الشرطة بمرتكبي الجنح والجرائم. ثم قادني الدركي إلى الصالون واقترح علي أن يأتيني بالعشاء والشاي، لكنني لم أقبل عرضه تفاديا للإزعاج الذي قد يسببه له ذلك في هذا الوقت المتأخر من الليل. وقد أسفت فيما بعد على رفضي.  ثم غادرني متمنيا لي نوما سعيدا. لكن تضافر الجوع والبرد، مع ىتزاحم الهموم في رأسي، حال دون التوفيق في تحقيق تمنياته.

المدينة الأسطورية، تتوارى تحت الرمال...

       السابعة صباحا. بدأت رحلتي عبر أنقاض مدينة الإسلام السابعة. فزرت جامعها الذي احتلت منارته الشهيرة حيِّزا ملحوظا في كتبنا المدرسية ومكانة كبيرة في اللاشعور الجمعي لنخبنا، على غرار ما يمثلهبرج ايفيل (  Tour Eiffel) في منشورات الإشهار الباريسية ولدى الفرنسيين. ضُرِب لي موعدٌ مع الإمام عند الساعة الثانية ظهرا. ثم تابعت نزهتي في ركام تاريخ تحنو عليه عجائز نخيل تحتضر، من الشمال والشرق. في نفس الوقت كانت رياح رملية تعصف بشدة متزايدة مع مرور الساعات. لكنها لم تمنعي من أن أتوقف عدة مرات مع مزارعين وجدتهم على طريقي وقد تحدثت معهم دون أن أرد على أسئلتهم حول هويتي القبلية. لكنهم لم يؤلوا الأمر اهتماما عظيما مركزين اهتمامهم وجهودهم في وجهة أخرى تبين لي أنها عبثية: القوم منشغلون بإقامة أطواق حماية بدائية مكونة من سعف النخيل والأعمدة الخشبية البسيطة وقطع بالية من القماش... يراد منها أن تقي واحاتهم من التصحر.

 وأمام هذا الجهد الكبير ذي الثمرات الضئيلة في مواجهة الرمال الزاحفة، شكلت تلك العاصفة العاتية مصدر احساسات محزنة لي ومؤلمة، فهزّت نفسي رغما عني أصداءُ محنةٍ تناجي خِفْية: لا مُنقذَ لمآثرنا! وشعرت أن لا جدوى مما يعرف « بمشاريع تثبيت الرمال »! فالتفاؤل مفرط لدى الذين يظنون أن واحات شنقيط ستقاوم زحف الرمال لأكثر من عشر سنوات قابلة! بلى! فمصير تلك الثروة في هذا الربع هو الزوال، إذا لم يُعتمَد تدخل فعال. إحساس أليم ينبع من فلسفة مرة يطبعها التشاؤم، ولدها لدي أزيز العواصف المقلقة ومشاهد التصحر المحزنة في المنطقة التي تظهر جليا عجز بشر لا حول لهم ولا قوة  في هذا الصراع غير المتكافئ مع طبيعة قاسية وأحيانا شرسة، لا يقدرون لها على شيء. كما أكدته تصريحات مزارعي وسكان المدينة الذين التقيت بهم.

 ومع ذلك، فهؤلاء مصممون على البقاء في حاضرتهم الأسطورية رغم مستقبلها القاتم، ومهما كانت العواصف… هل يعود ذلك إلى إيمانهم بأن هذا هو قدرهم؟ أم إن مرده يكمن في سرّ مكنون يربط الناس ببلداتهم؟ أو يعود لأسباب أخرى؟

 مهما كانت دوافعهم، فإنني أراهم على صواب: شنقيط فخرهم، وفخرنا جميعا. مصدر اعتزاز للبلد كله… بل إن أهميتها عطاءً ورمزا تتعدى البعد الإقليمي إلى الحضاري العالمي. فهي كنز إشعاع ثقافي وعلمي عظيم يلزم حفظه بأي ثمن.

شعور مفاجئ بالغربة...

       في حدود الساعة الثانية عشرة زوالا، عدت إلى مضيفيَّ، فقدموا لي االشراب، والشاي، والغداء. ثم جاء الدركي حاملا أمتعتي دون أن أطلبها منه، قائلا بأدب:  "لعلكم تريدون أن تأخذوا منها أشياء". لم يكن يعلم – للأسف – عدم رغبتي في بعثرة محتواها مخافة أن يطلع الناس على زادي الذي أرى أنه غير ملائم للسياق إطلاقا. فوجباتي الفردية المعلبة ( علبة قهوة، حليب مصنع… أكياس فطريات، هليون…)   قد يكون واردا اقتناؤها عندما يكون المرء علي شواطئ كوت دازور (Côte d’Azur)  أو في قارة أخرى. أما هنا، في شنقيط، فهي غير مؤاتية بتاتا. فأي محاولة لاستعمالها قد تؤول بنكران للجميل أو بعدم الاحترام تجاه مستضيفي الأسخياء. وبصورة لم أكن أتوقعها صار مجرد التفكير فيها يزعجني، و يشعرني بذنب الاغتراب… لذا وجب علي بذل قصارى جهدي لإخفائها عن الأنظار.

 أداء الأذان… و زيارة المكتبة…

       في الساعة الثانية بعد الزوال، توجهت إلى الجامع.. صعدت بهدوء أدراجه ذات القرون العتيقة. ثم أذنت لصلاة الظهر. وبعد أداء الصلاة، اصطحبني الإمام إلى مكتبة أهل حبت الشهيرة. وهي أسرة فاضلة استطاعت أن تجمع عبر ظهور العيس خلال قرون عديدة أكثر من ألف كتاب مشتراة بأثمان غالية. وحسب محدثي ـ الإمام محمد الأمين بن غلام ـ كان هناك أكثر من 1500 كتاب إبان قدوم المستعمرين. ولم يعد موجودا منها في يومنا هذا سوى 900 كتابا، ثلاثين منها مكتوبة على الآلة والبقية بأيدي نساخين. وبعض تلك المخطوطات اختفت من المكتبات العربية ولم يبق منها سوى النسخ الموجودة عند أهل حبت. وفي هذه المكتبة توجد أمهات المراجع الإسلامية والعربية المعروفة في حياتنا الثقافية الأصيلة… إضافة إلى ميادين أخرى كالكيمياء القديمة،  والطب، والمنطق، والرياضيات… بهرني حقا هذا الكنز العظيم الذي لا يمكن تقدريه بأي ثمن. وكيف تمكن أجدادنا من جمع مثل هذا المورد الثقافي والعلمي العظيم بوسائل شحيحة!

تزاحمت في ذهني المفارقات بين مكتبة المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحةالتي أشرف على تسييرها وبين هذه المكتبة الشنقيطية من حيث الكم والنوع. فإذا أنا أشرد من واد غير ذي زرع.. تقتصر رفوفه على بضع مئات من الكتب ينقصها التنوع والثراء، لأنها تتكون – في الأساس – من قصص بوليسية لكتاب غربيين من أمثال: موريس لي بلاه  (Maurice Le Blanc)، آقاتا كريستي (Aghata Christie) ، اكسبراي (Exbray)… إلى فضاء معرفي فسيح تتعانق فيه مختلف المعارف والقيم الأصيلة ثراء…

 العودة إلى أطار… وإشكالية امتحان التعريف

كنت في بيت مستضيفي حينما وصلت سيارة "لاندروفر" للدرك في حدود الساعة السادسة مساء، تحمل قائد الفرقة عائدا من إجازة. بدا مستغربا، شيئا ما، وجودي هنا. فشرحت له دواعي زيارتي وظروفها دون أن اشفي غليله فيما يعني هويتي القبلية. لكنه سرعان ما تفهم الأمر، وطلب مني بإلحاح تمديد إقامتي بين ظهرانيهم. فرفضت التماسه بأدب منشغلَيْنِ بأطراف الأحاديث حول الشاي دون أن نضيع الكثير من الوقت. ثم شكرته وأثنيت على الحفاوة والدعم الكريم الذي خصني به أعوانه. وغادرته على متن سيارة الدرك التي أتت به، فأوصلتني إلى أطار في ظرف ساعة ونصف. وهي فترة لا تكاد تزيد عن عُشر مدة رحلة الذهاب.

وقد يعود الفرق الزمني الشاسع بين مدتي الذهاب والإياب إلى غياب نزوات امرأة عن رحلة الذهاب، أو بالأحرى، قد يعود السبب لروح المسؤولية لدى السائقين العسكريين وصرامتهم. و تبدو لي الفرضية الأخيرة أكثر مصداقية وإن كانت لا تشفى غليلي تماما. غير أن هذا الأمر ليس أهم إشكالية استحوذت على تفكيري خلال هذه المغامرة القصيرة التي كانت لذيذة رغم كل شيء. فالسؤال الذي ما فتئت اطرحه يتعلق بكيفية تفادى امتحان التعريف التقليدي المشهور في بلادنا:   « ما هي قبيلتك ؟ ».

أطار، 30 دجنبر 1985

البخاري محمد مؤمل

تصنيف: