صداقات العصر الإلكتروني الجديد / د السيد ولد إباه

اثنين, 04/09/2018 - 15:34
د السيد ولد إباه

كانت مفاجأة كبيرة لمستخدمي شبكة التواصل الاجتماعي «فيسبوك» عندما اكتشفوا أن معلوماتهم الشخصية التي كانوا يتوهمون أنها في مأمن وحفظ تُسرب وتُباع لأغراض تجارية وانتخابية، ما حدا بالكثيرين منهم إلى الانسحاب من الشبكة المفتوحة واسعة الانتشار. قيل قبل سنوات إن عالم «فيسبوك» الجديد سيجسد حلم البشرية في التواصل الحر، وسيقضي على كل القيود المعيقة لحرية التعبير، وسيوفر الأرضيّة الملائمة للديمقراطية الكونية. ما حدث نبّه إليه «جوزيه فان ديجك» في كتابه «ثقافة الاتصال» من تحول موقع التواصل الاجتماعي إلى نمط من الصياغة التقنية للترابط الاجتماعي، فبدلاً من أن يولد العالم التقني فضاء دافعاً للترابط الإنساني، قضى على الأبعاد الإنسانية الحقيقية، وحوّل العلاقات الإنسانية إلى مادة للترويج والبيع، بحيث يكون كل رأي أو انطباع عنصراً قابلاً للتوظيف والاستخدام النفعي.

ليست التقنية الاتصالية من هذا المنظور مجرد حامل محايد، أو مجرد قناة لتبادل المعلومات، بل إنها صنعت عالماً جديداً، وغيرت جذرياً طبيعة الوجود الإنساني في أبعاده الذاتية والنفسية العميقة.

 

 

الصداقة نفسها تغيرت دلالتها، لا تنسجم في العالم الافتراضي مع أي من الدلالات الثلاث التي ذكرها الفيلسوف اليوناني «أرسطو»: صداقة المنفعة المتبادلة، وصداقة الحب وصداقة الخير، إنها صداقة تجمع بين الاقتران والتزامن من جهة والانفصال الجذري والتباعد الأقصى من جهة أخرى، بمعنى أنها تلغي الحاجة إلى القرب والألفة وتستبدلها بسهولة الاتصال والتبادل. صديق مواقع التواصل الاجتماعي هو في نهاية المطاف مجرد عامل غير واعٍ في ماكينة إنتاج هائلة تسخر ميوله وتوهماته وشبكة علاقاته في مشروع ربحي ضخم لا يستفيد شيئاً من ريعه (زادت أرباح مؤسسات الجافا أي جوجل وفيسبوك وأمازون وآبل على 550 مليار دولار عام2017). الفرق الكبير بين رأسمالية القرن التاسع عشر، ورأسمالية الثورة الاتصالية الراهنة، هو في طبيعة الاستغلال الذي لم يعد يأخذ شكل القهر والعنت والإكراه، بل يقوم على تحويل الرغبة والمتعة والترفيه إلى مادة للاستغلال، بحيث يتوهم المنخرط في شبكات التواصل الافتراضي أنه يحقق ذاته ورغباته مجاناً، وباستطاعته الخروج على الرقابة، والتحكم بالولوج إلى العالم التبادلي المفتوح، والحال أنه بكل نقرة أو إطلالة يترك أثراً باقياً للمراقبة وينتج سلعة ثمينة للبيع والترويج.

وإذا كانت دلالة الصداقة والصحبة قد تغيرت نوعياً، فإن الارتباط التقليدي بين المعلومة والحقيقة قد انحسر. وبعبارة أخرى لم تعد الحقيقة وفق التعريف المألوف هي القدرة على ضبط الخبر الصحيح في الروايات المتعددة المحصورة، ما دام الاتساع اللامتناهي للرواية يحرم من القدرة على التثبت والتدقيق والتمييز، تلك هي الظاهرة التي أطلق عليها الفيلسوف الإيطالي «موريزيو فراريس» عبارة «عالم الوثيقة ميديا» documedia، ويعني به العالم الذي أصبح فيه كل فرد منتجاً للمادة الوثائقية، ومستهلكاً لها في آنٍ واحدٍ. الوثيقة كانت في المجتمعات الإنسانية سابقاً محدودة بل نادرة، وظيفتها الأساسية هي تسجيل مقتضيات الوجود الإنساني الأساسية من ممارسة دينية (النصوص المقدسة) وتبادل اقتصادي، وأعراف اجتماعية، في حين أن إمكانات التسجيل اللامتناهية اليوم، حوّلت كل مواقف الإنسان وانطباعاته إلى وثائق فانمحت الحدود التقليدية بين النص والكلام والحقيقة والوهم والمعرفة والاعتقاد.

في دراسة أخيرة للمعهد التكنولوجي الشهير في ماساشوستس تبين من خلال استعراض 126 ألف تغريدة تبادلها ثلاثة ملايين شخص في شبكة «تويتر» أن الأخبار الزائفة Fake News تتجاوز قدرتها على الانتشار ستة أضعاف الأخبار الصحيحة، بما يعني أن السياق التواصلي نفسه ليس إطاراً لإنتاج المعارف والحقائق، وإنما لتبادل الانطباعات والانفعالات الحية التي تستقطب أكثر المتابعين.

وإذا كانت ظاهرة التلاعب بالمعلومات عن طريق تقنيات الاتصال ليست بالجديدة، بل إن العديد من الدراسات بينت علاقة الظاهرة التوليتارية الحديثة (النازية والشيوعية) بقيام الإذاعة العمومية والتلفزيون العائلي، فإن الفرق الكبير بين حوامل الانفصال العمومي السمعية البصرية والتقنيات الاتصالية الجديدة، هو أن الإعلام العمومي التقليدي كان يوظف أساساً في التحكم في المعلومات وضبط الرأي العام الجماهيري من خلالها لفرض أيديولوجيا اجتماعية أحادية، في حين أن الشبكات التواصلية الراهنة لا تعرض مضموناً أيديولوجيا بعينه ولا تتبع سلطة سياسية معينة، بل تنتج وتسوق انطباعات وأهواء ولذا تتناسب مع النزعات الشعبوية الجديدة الصاعدة، التي لا تتأسس على خلفيات فكرية أو أيديولوجية، وإنما مجرد مشاعر ومخاوف متقاسمة. الصديق في العصر الإلكتروني الجديد ليس الخل المصاحب، الذي تحدث عنه الأدب العربي القديم، بل هو رقم أصم في ماكينة تبادل ربحية واسعة تعزل البشر بعضهم عن البعض، من خلال وهْم التعايش الجامع بينهم.