مشكلة موريتانيا ليست في الأنظمة العسكرية التي تتعاقب على نهبها فحسب، و إنما في معارضتها أيضاً، بدءً بأحمد ولد داداه الذي لا يفقه في السياسة إلا ما يفقهه من علم الحشرات، و لا يرى فيها هدفاً غير الوصول للسلطة، فهو يدير حزباً أشبه بالطريقة الصوفية، التي يسلِم المريد فيها نفسه لشيخه، فيكون معه كميّت بين يدي غاسليه.. فالتكتل هو جهاز لنشر الشائعات، و ترويج الأكاذيب، و تقديس الروح الملائكية للزعيم أحمد.. و هو جهاز أجهز على الديمقراطية و فتك بالفعل المعارض، و اعتبر الانقلاب على سيدي ولد الشيخ عبد الله حركة تصحيح، لأن لقاءً جمع بين كمال ولد محمدّو و النائبين التكتليين يعقوب ولد امين و محمد ولد ببان نسقّه الدان ولد اليسع (حسب ما اطلعني عليه حينها يعقوب ولد امين) أعطى فيه ولد محمدّو بالنيابة عن ولد عبد العزيز الذي كان يعدّ انقلابه، ضمانات لولد داداه بتعيينه وزيرا أول كامل الصلاحيات، واسع السلطة، لفترة انتقالية تمتد لسنين، يمكن لولد داداه أن يستقيل بعدها من رئاسة الوزراء، ليحظى بدعم ذوي الأحذية الخشنة في الانتخابات الرئاسية. فولد داداه لم يرفض يوماً أن يكون مرشح العساكر، و لم يوصد باباً في وجوه “رموز الفساد”، و الذين كانوا يتقدمون صفوف نظام ولد الطائع التحقوا بحزبه فتقدموا صفوفه.
أتذكر أن المحترم سيدي ولد الشيخ عبد الله قال لي مرة “إن ولد داداه صادق تماماً فيما يعبر عنه من طموحه لديمقراطية موريتانيا و تنميتها، و لكن مشكلته أنه يرى أنه وحدَه القادر على تحقيق ذلك”.
و هكذا أيضاً أثخن مسعود ولد بلخير الجراح في جسد المعارضة، و باعها أكثر مما تبيع المومسات التايلانديات أجسادهن.. فهو من تصدّي لثورة شباب 25 فبراير، و طعن المعارضة في فقرات ظهرها القصية أكثر من مرة.. و صاح في مهرجان شعبي أن “المجد لعزيز”، ليتحول من زعيم حقوقي إلى برجوازي تُفتَح له دفة السيارة، و تنحر عند بابه الجُزُر، و يتخذ السراري و المحظيات، و تنشد القينات عند ظهوره بيت حرب فيجزل لهن العطاء و ينثر عليهن الدراهم و الدنانير.
لم يعد لمسعود دور يلعبه غير كسع قفا المعارضة، و حثو التراب في عيونها، و تشريع تجاوزات ولد عبد العزيز، و إضفاء المصداقية على مسرحياته الهزيلة.. إن غضب أرعد و أزبد فأسكتوه بما يُسَكت به صفير الأمعاء.. فشأنه مع السلطة كأبي زيد و قصعة الثريد، يأكلها و يقول: هل من مزيد؟!
أما الإسلاميون فمن أكثر من أوغل في دم المعارضة.. فمن جميع مواقفهم تتبين عدم إيمانهم بالوطن، لأن “الإسلام لا يعترف بالحدود”، فسواء لديهم موريتانيا و جاكرتا.. فيمكنهم اتخاذ موقف يضر بنا هنا و لكنه يفيد “الجماعة” هناك.. و الديمقراطية وسيلة للوصول للحكم، كالدلو بكف الماتح يلقيه بعد أن يملأ به ركوته، و الحداثة و حقوق الإنسان طريقة للاندماج في الحياة النشطة، و وضع مساحيق تجميل تخفي الخموش الفكرية و التجاعيد التقدمية..
باستثناء أحمد ولد داداه لم يضر فصيل سياسي بالديمقراطية في موريتانيا كما أضرّ بها الاسلاميون.
يذكرني إسلاميو موريتانيا ببيتين كتبتهما صغيراً، أيام دراستي في محظرة النباغية، عن إيران، بعد فضيحة “إيران غيت” أو “إيران كونترا” في أغسطس 1985، أقول فيهما:
و بيضاء المحاجر ذات دلٍّ
كأن ثُدِيها رمانتان
تطوف على الرجال ببُرد خزٍّ
و عند الناس تُدعى بالحصان
.. المعارضة الموريتانية لم تتشكل على أساس رؤية مدافعة عن الديمقراطية و التنمية، تطرح بديلا تؤمن به للنظام السائد، و تكافح من أجل تحقيقه، و إنما هي نادٍ للمغاضبين و الباحثين عن المصالح الشخصية.. رغم أن الأمر ليس على إطلاقه، فمن المعارضة قلة يؤمنون بالكفاح من أجل الأفضل لموريتانيا، و قد دفعوا ثمن ذلك تنكيلا و تشريداً و مضايقة.